للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أذلّ الناس، وأحقرهم، دعاه صلّى الله عليه وسلم بنفسه، فاتخذ غلامه زيدا بمنزلة الابن، وسوى بين الرقيق والعربي الحرّ الكريم المحتد، الشريف النّجار. وكان قد بلغ الإباء والفخر والخيلاء بالعرب إلى أن كانوا يراعون ذلك في الحرب أشدّ المراعاة، فكانت القبائل تتفاضل في درجات الشرف والكرم، والذي يزعم لنفسه أنه أشرف من غيره، وأرفع قدرا يشمخ بأنفه مترفعا عن أن يدنس «١» سيفه في القتال بدم من يراه دونه شرفا، وكرما، ومنزلة. أما رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فقد أذّن في الناس: أنّ الناس كلّهم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: ١٣] وبهذا التعليم الجديد أعلن أنّ الناس كلّهم سواسية إلا بالفضائل، فلا تعلو طبقة على طبقة، ولا طائفة من القوم على طائفة أخرى، وأصبح السيد، والمولى، والغني، والفقير سواء، لا يتفاضلون إلا بالنفوس الرضيّة، والأعمال الصالحة. ولم يبق للنسب وزن في ميزان الإسلام. واحتاج هذا التعليم إلى عمل يؤيده، ويقويه، ويقيم له وزنا في أعين الناس. وكان النبي صلّى الله عليه وسلم لما تبنّى «٢» زيد بن حارثة زوّجه زينب بنت جحش (وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة النبي صلّى الله عليه وسلم) وكان المتبنّى في نظام الجاهلية مثل الولد من الصّلب، فكانوا يحرمون على أنفسهم نكاح حلائل من اتخذوه ابنا لهم، كما يحرمون على أنفسهم نكاح حلائل الأبناء من الصلب، وقد جرّ هذا الحكم الجاهلي مفاسد عظيمة في حياة الأسرة عند العرب، فلما جاء الإسلام بإصلاح رسوم الجاهلية الفاسدة؛ أبطل بعضها، وعدّل بعضها، فلما أراد أن يبطل أحكام الجاهلية في المتبنّى، مست الحاجة إلى أن يبطل هذا الحكم الفاسد بعمل من أعمال الرسول، ولا يخفى أنّ الشرف من أشدّ ما يحافظ عليه الناس، ولا سيما العرب، فأقدم الرسول على ما دعا إليه من إبطال حكم التبني، وتزوج زينب حليلة زيد


(١) يدنّس سيفه: يوسّخه.
(٢) تبنّى فلانا: اتخذه ابنا.

<<  <   >  >>