للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وحصافة رأيه، ورجاحة عقله، ولكنّنا- والحقّ يقال- لم نجد رجلا اهتدى بدراسة فلسفة أرسطو، أو وصل بها إلى السعادة المنشودة.

وكذلك نرى في الكلّيات أفاضل من العلماء، وفحول الأساتذة والمدرسين يعجب الطلبة فصيح كلامهم، وبراعة بيانهم، وبليغ حوارهم، وعذب حديثهم، وهم يؤثّرون فيهم بذلاقة ألسنتهم، واتساق أفكارهم، وترتيب معانيهم، لكنّهم لا تعدو محاضراتهم جدران كلياتهم، وقاعات محاضراتهم، وإذا خرجوا منها أصبحوا كعامّة الناس، لا يمتازون عليهم بعمل تتخذه الإنسانية مثالا يحتذى، ولا بخلق يختلفون به عن غيرهم هديا وسمتا.

لقد رأينا على مسرح العالم كثيرا من الملوك الجبابرة الذين حكموا العالم، واستولوا على المماليك، واستعبدوا الأمم. وكم من أرض عمروها، ومدينة دمّروها، وكم وضعوا شعوبا، ورفعوا آخرين، وكم سلبوا، ومنحوا، وضرّوا، ونفعوا، فكانوا في سيرتهم كما قال الله عزّ وجلّ على لسان ملكة سبأ: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً [النمل: ٣٤] . نعم إنّ السيوف البواتر في أيدي بعض الملوك قد قذفت الرّعب في قلوب المجرمين، فكفّوا عن اقتراف الجرائم علانية، وفي وضح النهار، مستترين وراء مكامن الريب، أو قابعين في بيوتهم.

لكنّ سيوف الملوك عجزت عن أن تستلّ الرذائل من قلوب أهلها، وأن تحسم مادة الشرّ في نفوسهم، وأن تطهّر صدورهم من فساد السّرائر، ذلك الفساد الذي يحمل أهله على ارتكاب المعاصي واقتراف السيئات. وأقصى ما يترتّب على رهبة المجرمين والمرجفين من سيف الملوك المسلط عليهم أن يسود الأمن والسّلام سبل البلاد، وأسواق المدن، وشوارعها، وحاراتها، أما إصلاح القلوب، وتهذيب النفوس؛ فمما يخرج عن سلطان السيف، بعجز عن إرادة الملوك. بل الحق- والحقّ أحقّ أن يقال- أنّ رأس كلّ شرّ إنما نجم من قصور بعض الملوك. وإنّ كلّ فساد نبت نابته في فناء حصونهم، بل في قصورهم نبعت عيون الفواحش والجرائم، ومن حصونهم انفجرت ينابيع الظّلم والعدوان، وعلى أيديهم تفاقم كلّ شرّ،

<<  <   >  >>