للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومن أخلاقهم سرت العدوى إلى أخلاق الناس، ولفساد قلوبهم وسوء أعمالهم اتّسع الخرق على الراقع، حتّى أعيا الأطباء داء المجتمع البشري.

وهل خلف لنا الإسكندر المقدوني، وقيصر روما الأعظم مثالا من أعمالهما يصلح المجتمع إذا اقتدى به، وسار على أثرهما فيه؟

وهل نالت حظّا من البقاء والدّوام أيّة سنّة سنّها عظاماء المفكرين للمجتمع البشري من أمثال سولون «١» وغيره من واضعي الشرائع التي يعتبرونها عادلة قيّمة، مع أنّهم أبدعوا فيها ما شاءت لهم أفكارهم الثاقبة، وأنظارهم البعيدة، وقرائحهم المتوقّدة. ولو سأل سائل عن تلك الشرائع القيّمة والقوانين العادلة كم استمرت؟ لما استطاع أحد من أتباعهم وأنصارهم إلا أن يعترف بأن بقاءها كان قصير الأمد، وأنّ نقّادها أكثروا من نقدها، بل شكّ حتى أتباعهم وأنصارهم في نصح أولئك المفكرين، ونقاء سرائرهم، وصفاء قلوبهم، وفي إخلاصهم للإنسانية وللبشر جميعا؛ لأنهم لم يجدوا فيها الحياد الصّادق، والنّصفة المحضة، والعدل الصريح، وبراءة الذمّة من المحاباة، ومن جرّاء ذلك نشأ بعدهم قوم آخرون نبذ حكامهم تلك الشرائع، ومحوها كما يمحو المصححون أخطاء الحروف في الكتابة، ثم شرع هؤلاء الآخرون في سنّ قوانين غيرها تلائم مصالحهم، وتوافق مطامعهم، فجاءت القوانين الجديدة كأختها التي سبقتها غير مراعى فيها حقوق بني آدم كلّهم، ومصالح الأمم بلا استثناء. وفي أيامنا هذه نرى مجالس التشريع في البلاد المتمدينة لا تفتأ تنسخ قوانين كان معمولا بها، وتسنّ بدلا منها قوانين أخرى جديدة، حتى صارت كلّ يوم شريعة تشرّع في مكان شرعية تنسخ، وقانون يسنّ بدلا من قانون يلغى. كل هذا طمعا في بقاء دولة، وتثبيت أركانها، واستيلاء رجالها على مناصبها، ورغبة منهم في زخرف الدنيا وزينتها ونعيمها، لا تحفزهم إلى ذلك مصالح الناس، ولا منافع الأمة كلّها.


(١) سولون ٥٥٨ -٦٤٠) (Solon) ق. م) : مشرّع أثيني، أحد حكماء اليونان السبعة، سنّ قوانين إصلاحية اجتماعية وسياسيّة مهّدت الطريق لظهور ديموقراطية كليستنس.

<<  <   >  >>