للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بعد الصلح والتراضي وصفاء النفوس وخلوها من كل ما يدعو إلى الجريمة والإجرام, فالعفو هنا يؤدي وظيفة العقوبة وينتهي إلى نهاية تعجز العقوبة عن الوصول إليها, وهذا هو الوجه العملي لتقرير حق العفو.

أما من ناحية المنطق فقد قلنا إن جرائم القتل والجرح جرائم شخصية, فهي تصدر عن دوافع شخصية في نفس المجرم سببها شخصية المجني عليه, وهي تمس المجني عليه في حياته وبدنه أكثر مما تمس المجتمع في أمنه, فمن حق المجني عليه أن يكون لشخصيته اعتبار في توقيع العقوبة ما دامت الجريمة متصلة بشخصه هذا الاتصال.

وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد اعترفت بحق المجني عليه في أن يعفو عن عقوبة بعض الجرائم, فإن القوانين الوضعية تعترف بنفس هذا المبدأ وإن كانت لا تطبقه على نفس الجرائم التي ينطبق عليها في الشريعة, ذلك أن من القوانين الوضعية ما يعترف بحق الزوج وهو المجني عليه في جريمة الزنا في أن يعفو عن عقوبة زوجته الزانية. فالشريعة إذن لم تأت بشيء غريب حين اعترفت للمجني عليه بحق العفو وإنما جاءت بمبدأ تعترف به اليوم أحدث القوانين, وتبقى الشريعة بعد ذلك متفوقة على القانون الوضعي تفوقاً ظاهراً في أنها أحسنت اختيار المنطقة التي يطبق فيها المبدأ؛ لأن تقرير حق العفو في جرائم القتل والجرح يؤدي إلى الوفاق والوئام، ويقضي على دواعي النفور وبواعث الانتقام، فتقل بذلك الجرائم وتخف حدة الإجرام، أما القانون فقد أساء اختيار المنطقة التي يطبق فيها المبدأ, لأن تقرير حق العفو ي جريمة الزنا يؤدي إلى شيوع الفاحشة وفساد الأخلاق, ويهدم نظام الأسرة وإن أريد به الوفاق الوقتي بين الزوجين, وإذا هدم نظام الأسرة فقد هدم الركن الركين الذي يقوم عليه المجتمع, وما وجد القانون لهدم الجماعة وإنما وجد للمحافظة عليها.

وإذا كان القصاص هو عقوبة القتل العمد والجرح العمد فإن الحكم بالقصاص مقيد بإمكانه بتوفر شروطه، فإذا لم يكن ممكناً ولم تتوفر شروطه امتنع الحكم

<<  <  ج: ص:  >  >>