للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهو لا يعلم ما قدر الله عليه، فيكون إقدامه الاختياري على المخالفة هو سبب العقوبة سواء كانت في الدنيا أم في الآخرة، ولذلك لو أجبره مجبر على المخالفة، لم يثبت عليه حكم المخالفة ولا يعاقب عليها لثبوت عذره حينئذ. وإذا كان الإنسان يدرك أن هروبه من النار إلى موضع يأمن فيه منها يكون باختياره، وأن تقدمه إلى بيت جميل واسع طيب المسكن ليسكنه يكون باختياره أيضاً، مع إيمانه أن هروبه وتقدمه المذكورين واقعان بقضاء الله وقدره، وأن بقاءه لتدركه النار، وتأخره عن سكنى البيت يعد تفريطاً منه وإضاعة للفرصة يستحق اللوم عليه، فلماذا لا يدرك هذا بالنسبة لتفريطه بترك الأسباب المنجية له من نار الآخرة، الموجبة لدخوله الجنة؟!

وأما التمثيل بأن الله إذا قدر للعبد أن يبني مسجداً فإنه سيبني هذا المسجد لا محالة، لكنه ترك لعقله الخيار في كيفية البناء، فهذا تمثيل غير صحيح، لأنه يوحي بأن كيفية البناء يستقل بها العقل ولا تدخل في قد الله -تعالى- وأن أصل فكرة البناء يستقل بها القدر ولا مدخل للاختيار فيها. والحقيقة أن أصل فكرة البناء تدخل في اختيار العبد لأنه لم يجبر عليها، كما لا يجبر على فكرة إعادة بناء بيته الخاص أو ترميمه مثلاً، ولكن هذه الفكرة قد قدرها الله -تعالى- للعبد من حيث لا يشعر، لأنه لا يعلم بأن الله قدر شيئاً ما حتى يقع ذلك الشيء، إذ القدر سر مكتوم لا يعلم إلا باطلاع الله -تعالى- عليه بالوحي، أو بالوقوع الحسي. وكذلك كيفية البناء هي بقدر الله -تعالى- فإن الله -تعالى- قد قدر الأشياء كلها جملة وتفصيلاً، ولا يمكن أن يختار العبد ما لم يرده أو يقدره، بل إذا اختار العبد شيئاً

<<  <   >  >>