فلما انهارت الخلافة، وانهارت معها الحكومة المركزية، وقامت دول الطوائف، طرأ تغير ملحوظ على أحوال النصارى المعاهدين. وبالرغم من أن هذا التغير لم يكن دائماً ضد مصالحهم أو حرياتهم، فإن مصايرهم وأحوالهم أضحت في كل دولة من دول الطوائف، تتوقف على ظروف تلك الدولة، وعلى سياسة حكومتها المحلية. ونستطيع أن نقول إن النصارى المعاهدين لقوا على وجه العموم في مختلف دول الطوائف نفس المعاملة الكريمة التي كانوا يلقونها في ظل حكومة الخلفاء، بل لقد كان في ظروف بعض هذه الدول، ما يحملها على اتباع سياسة خاصة، تتسم باللين والمصانعة نحو رعاياها النصارى، ولما عصفت ريح الحرب الأهلية بقرطبة، عقب انهيار الخلافة اضطربت أحوال المعاهدين بها، وقد كانوا يعطفون على الجهة العامرية، ويخشون من عسف البربر وطغيانهم، فلما بسط البربر سلطانهم على عاصمة الخلافة، أخذت جموع كبيرة منهم تغادر قرطبة في أثر الفتيان العامريين إلى شرقي الأندلس. ولما قامت دولة بني جهور في قرطبة، بذلت حكومة الجماعة جهدها لتأمين المعاهدين وحمايتهم، وندب أبو الوليد ابن جهور وزيره الشاعر الكبير ابن زيدون، " للنظر في شئون أهل الذمة في بعض الأمور المعترضة "(١).
ولم تقتصر هذه العناية بشئون النصارى المعاهدين على حكومة قرطبة، بل لقد كانت معظم دول الطوائف الأخرى، تبذل جهوداً خاصة لتأمين المعاهدين وحمايتهم، وكسب مودتهم. وكانت بواعث هذه السياسة الودية واضحة، في الظروف التي كانت تجوزها دول الطوائف يومئذ. فقد كانت مملكة قشتالة ْالنصرانية تملك زمام التفوق العسكري، وكان ملك قشتالة ألفونسو السادس يرهق دول الطوائف بإغاراته المتوالية، ومطالبه المالية المغرقة، وكان ملوك الطوائف يتسابقون إلى خطب مودته، واتقاء شره، وكان منهم من يستعديه على جيرانه المسلمين. وكانت الأقليات النصرانية في القواعد الأندلسية، في مثل هذه الظروف تعتبر مكامن للخطر والدسائس، وكان ملوك الطوائف يحملون بذلك على مصانعتها ومداراتها. وكان بنو عباد في مقدمة أولئك الملوك الذين عملوا على حماية المعاهدين وكسب مودتهم، وقد كانوا أشد ملوك الطوائف سعياً
(١) في " إعتاب الكتاب " لابن الأبار (مخطوط الإسكوريال) اللوحة - ٦ أ.