لبثت الأندلس عقب الفتح، ردحاً من الزمن، بعيدة عن أن تكون مهداً لنشوء الحركة الفكرية. ذلك أنه خلال عصر الولاية، لم تكن الأمور قد استقرت بعد، ولم تترك مشاغل الغزو، والخلافات الحزبية، والانقلابات المتوالية في الرياسة، كبير مجال لاتجاه الأذهان إلى التفكير والأدب، ومن ثم فإنا لا نجد في هذا العصر كتاباً أوشعراء أو مفكرين ذوي خطر، وإن كنا نجد بعض الآثار الشعرية القليلة، التي ترد على ألسنة بعض الولاة أو الزعماء.
ويمكننا أن نرجع الحركة الفكرية الأندلسية، إلى عصر عبد الرحمن الداخل المتوفى سنة ١٧٢ هـ. ذلك أن هذا الأمير القوي اللامع، منشىء الدولة الأموية بالأندلس، كان أول شخصية بارزة ظهرت في ميدان التفكير والأدب والشعر، ويمكن أن نعتبره بحق رائد النهضة الأدبية النثرية والشعرية، التي تفتحت فيما بعد، وازدهرت في عهد خلفائه، ولنا فيما أوردناه من نماذج قليلة، من نثره، ومن نظمه، ما يدل على براعته وتفوقه في هذا الميدان.
ومن بين أمراء بني أمية بالأندلس، كان الرواد الأوائل في الحديث والفقه، فقد كان الداخل، فوق براعته الأدبية عالماً بالشريعة، وكان ولده هشام بن عبد الرحمن المتوفى سنة ١٨٠ هـ (٧٩٦ م) مبرزاً في الحديث والفقه. وفي عصر هذا الأمير ظهرت، طلائع النهضة الأولى في ميدان التفكير والأدب، وكان يغلب على هذه النهضة في البداية، الطابع الديني قبل كل شىء، وكان قد رحل في عصر الداخل جماعة من فقهاء الأندلس إلى المشرق، ودرسوا بالمدينة على الإمام مالك وغيره من أقطاب المشرق، واستقوا من علم مالك واجتهاده، ونقلوا عنه كتابه (الموطأ)، وكان في مقدمة هؤلاء فقهاء مبرزون، مثل زياد بن عبد الرحمن،