الأدبية، وانتثر شملها، وفقدت وسيلة الاستقرار والتجمع، وشغل الأدباء والمفكرون يومئذ بالمحنة وآثارها. وغادر الأندلس فى تلك الفترة، كثير من الكتاب والعلماء الذين توقعوا سوء المصير، وآثروا العمل فى جو أكثر استقراراً وطمأنينة، مثل الشيخ محيى الدين ابن عربى المرسى قطب التصوف الشهير، وابن البيطار المالقى، وابن الأبار القضاعى، وابن حمدون الحميرى النحوى، وابن سعيد الأندلسى، وكثيرون غيرهم، ممن رحلوا إلى المشرق أو عبروا البحر إلى المغرب.
وهكذا طلعت أوائل القرن السابع الهجرى (الثالث عشر الميلادى) على الأندلس، بأحداثها وفتنها المتوالية، والحركة الفكرية فى ربوعها حائرة غير مستقرة، يتبدى ضوؤها باهتاً، فى ظل دول وإمارات تتصدع أركانها تباعاً.
ومع ذلك فقد ظل تراث الأندلس الفكرى فى هذه الفترة متواصلا، يمتاز على اضطرابه بكثير من نواحى القوة والنضج، التى امتاز بها فى ظل دولة الموحدين، وقت أن كانت فى عنفوانها.
وسوف نستعرض فيما يلى أعلام التفكير والأدب فى تلك الفترة المضطربة، التى مهدت حوادثها لقيام مملكة غرناطة، فهى ليست فى الواقع سوى حلقة اتصال، بين العصر الذى اختتمته الأندلس الكبرى، وبين العصر الذى بدأت فيه حياتها الجديدة (١).
[الشعر والأدب]
وكانت الحركة الأدبية يومئذ ما تزال فى عنفوانها. وكانت دولة النثر والنظم تحتل مكانتها الرفيعة، وبل لقد بعثت الأحداث والمحن، التى توالت على الأندلس يومئذ إلى الشعر بكثير من أسباب الإنفعال والقوة. فامتلأت الأندلس يومئذ بالشعر المؤسى، والمراثى القوية المؤثرة، التى نقل المقرى إلينا كثيراً منها، فى كتابيه نفح الطيب وأزهار الرياض.
وكان من أعلام الشعر فى تلك الفترة، علىّ بن محمد بن أحمد بن حريق الشاعر البلنسى المتوفى فى سنة ٦٢٢ هـ (١٢٢٧ م)؛ كان شاعراً مجيداً كثير النظم، ذاع
(١) عرضنا فى هذا الفصل بإيجاز إلى عدد من العلماء والكتاب والشعراء الذين تناولناهم فى خاتمة كتابنا "عصر المرابطين والموحدين" فى القسم الذى خصصناه للحركة الفكرية الأندلسية (القسم الثانى ص ٦٤٤ - ٧٢٦) حسبما أشرنا إليه من قبل. وقد كان هذا التكرار العرضى ضرورة للمحافظة على السياق، وللتمهيد لما سيرد من بعده خلال العصر الغرناطى