التسامح نحو رعاياها النصارى: تلك هي مملكة سرقسطة، فقد كانت بموقعها بين الممالك النصرانية الأربع، قشتالة ونافار، وأراجون وبرشلونة، وكونها تعتبر بهذا الوقع حاجزاً بين اسبانيا المسلمة، والممالك النصرانية من ناحية الشمال الشرقي، ثم بكونها تضم بين سكانها أقليات نصرانية كثيفة، كانت لذلك كله تجد نفسها مدفوعة بحكم الواقع والظروف إلى اتباع سياسة الاعتدال والتسامح نحو رعاياها النصارى، وقد كانت هذه المنطقة في الواقع وهي منطقة الثغر الأعلى منذ أيام بني قسيّ وبني الطويل وغيرهم من زعماء المولدين، ميداناً خصباً لالتقاء العناصر المسلمة والنصرانية وامتزاجها بقوة، وكانت بذلك مهداً لظهور المعاهدين، ومشاركتهم بقسط بارز في الحياة السياسية والاجتماعية. وكان بنو تجيب حكام الثغر الأعلى، ومن بعدهم بنو هود أصحاب مملكة سرقسطة يبسطون رعايتهم وحمايتهم على النصارى المعاهدين. وكان بنو هود بالأخص يشعرون بدقة مركزهم بين الممالك النصرانية، وتحفز هذه الممالك دائماً إلى التدخل في شئون مملكتهم وضغطها عليهم لاقتضاء الجزية، أو لاقتطاع بعض مدنهم وحصونهم، ويحاولون بسياسة التسامح المطلق نحو رعاياهم النصارى، أن يجتنبوا الدسائس والاضطرابات الداخلية، وأن يغنموا حياد الملوك النصارى وجنوحهم إلى المهادنة. وكان المقتدر بن هود. وهو أعظم ملوك سرقسطة من أشد أنصار هذا التسامح، وكان بين وزرائه المقربين وزير نصراني هو أبو عامر بن غند شلب Gundisalvo، وكان أديباً شاعراً. أجل وقعت في سرقسطة في سنة ١٠٦٥ م في عهد المقتدر مذبحة للنصارى، وذلك على أثر عدوان النورمان الشنيع على مسلمي بربشتر، وكان فيه من الروع والإستثارة ما فيه. بيد أنه كان حادثاً مستقلا، ولم يلبث أن استدركت عواقبه. وقد رأينا من جهة أخرى كيف كان بنو هود، يعتمدون على محالفة جيرانهم من الملوك النصارى، ويحشدون المرتزقة النصارى في جيوشهم بصفة مستمرة، وكيف كانوا أول من استخدم السيد إلكمبيادور، واعتمدوا على محالفته زمناً (١).
بيد أن هناك حقيقة يجب التنويه بها، وهو أن النصارى المعاهدين، بالرغم من هذه الرعاية والحماية، وهذا التسامح، التي كان يتبعها نحوهم ملوك الطوائف،