والخلاصة أن دول الطوائف تقدم إلينا ذلك المزيج المدهش من الضعف والقوة، ضعف البناء السياسي والعسكري، وقوة التراث المادي والحضاري، ومن الانحلال الاجتماعي الشامل، والتقدم الفكري اللامع. وقد كان أبرز ما في ذلك المزيج المتناقض، ضعف الروح الدينية والوطنية، بصورة لم تعرفها الأمة الأندلسية في تاريخها من قبل قط، بل ولم تعرفها فيما بعد، حتى في أسوأ عصور الفتنة، والتفكك السياسي والعسكري، التي كان يقابلها من الناحية الأخرى فترات قوة وتفوق من جانب الممالك الإسبانية النصرانية. ولكن الأندلس لم تبد قط في أية فترة من هذه الفترات تجاه اسبانيا النصرانية، مثل ما أبدته أيام الطوائف من التخاذل والاستسلام، ومن ضعف العقيدة الدينية والوطنية، ومن إهدار لمقتضيات الكرامة القومية، فعصر الطوائف وحده هو الذي يقدم إلينا تلك الخواص المؤلمة، التي تتناقض في مجموعها وفي تفاصيلها، مع طبيعة الأمة الأندلسية، ومع ما اتصفت به طوال تاريخها، من الشجاعة والشهامة والإباء، والتفاني في الذود عن الدين والوطن.
وفي وسعنا أن نلمح في تاريخ الإمارات والجمهوريات الإيطالية في عصر الإحياء، في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، كثيراً من آثار تلك الخواص التي غلبت على عصر الطوائف بالأندلس. فهنالك الأمراء الطغاة، والحروب الأهلية الطاحنة، تمزق وحدتها وتفرق كلمتها. وهنالك استعداء العدو الخارجي كل منها على الأخرى، ثم التخاذل في الدفاع عن الوطن. وهنالك الانحلال الديني والأخلاقي والاجتماعي الشامل. ونجد إلى جانب ذلك كله نهضة علمية وأدبية. وفنية زاهرة، من أروع ما عرفته إيطاليا في تاريخها، يرعاها الأمراء الطغاة، ويمدونها بالبذل الوفير. وهنالك أخيراً تجارة وصناعات رائجة. ورخاء شامل، وحياة كلها متعة واستهتار. ولا ريب أن هذا التماثل في الخواص بين العصرين، يرجع إلى حد كبير، إلى التماثل بين ما كان يجوزه كل منهما من الظروف السياسية والاجتماعية.