للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

في الأندلس، إذ قام بعض الخوارج على يوسف يدعو لبني العباس، طمعاً في الرياسة على نحو ما بينا، ولكنه كان صدى ضعيفاً لم يحدث أثره، واستمر يوسف ثابتاً في مركزه، يناهض الخارجين عليه بقوة وعزم. ولاريب أنه كان يحرص على ذلك السلطان الذي ألقى إليه به القدر، بل لعله كان يعمل لغاية أتم وأبعد، هي أن يؤسس بالأندلس مملكة مستقلة قوية، يتبوأ عرشها، وأسرة ملوكية جديدة من بنيه وعقبه، يلقى إليها بهذا التراث الباذخ.

على أن حوادث المشرق كانت تتمخض عن عوامل ومفاجآت أخرى. ذلك أن بني العباس بعد أن ظفروا بملك بني أمية ومزقوا شمل أسرتهم، أخذوا في تتبع من بقي من أمرائهم وزعمائهم، حتى لا تقوم لفلهم قائمة بعد. وعهد أبو العباس عبد الله " السفاح "، إلى عمه عبد الله بن علي وهو بالشام، تنظيم هذه المطاردة الدموية (١). فتتبع وجوه بني أمية ومواليهم في كل مكان، وأمعن في مطاردتهم وسفك دمائهم، وقتل منهم جماعة كبيرة من الأمراء والسادة، ولم يبق حتى على النساء والأطفال، ولما شعر أن كثيرين منهم فروا ولاذوا بالاختفاء، زعم أن أبا العباس قد ندم على ما فرط منه في حقهم، وأنه يشملهم بعفوه وأمانه، فخدع كثيرون منهم بهذا الوعد، ولبوا دعوة عبد الله إلى الظهور، واستطاع بهذه الوسيلة أن يقتل منهم نحو سبعين رجلا آخر. وكانت مأساة هائلة ارتكبت خلالها ضروب مروعة من القسوة، ومثل بكثير من الضحايا أشنع تمثيل، وألقيت جثثهم للكلاب، واستخرجت رفات الخلفاء الأمويين من مثواها وبددت، ولم تترك جريمة مثيرة، أو لون من العقاب أو المهانة، إلا كان فلُّ بني أمية لها فرائس وضحايا (٢).

وهنا يسوغ لنا أن نتساءل، من هو " السفاح "؟ أهو أبو العباس عبد الله ابن محمد أول خلفاء بني العباس؟ أم هو عمه عبد الله بن علي؟ هذا ما تختلف


(١) وقد أشار أحد الشعراء من دعاة بني العباس وهو سديف بن ميمون إلى هذه المطاردة في شعر أنشده بين يدي أبى العباس وفيه يقول:
لا يغرنك ما ترى من رجال ... إن تحت الضلوع داء دويا
فضع السيف وارفع السوط حتى ... لا ترى فوق ظهرها أمويا
(٢) راجع طرفا من فظائع هذه المطاردة في ابن خلدون ج ٣ ص ١٣٢ و١٣٣؛ وابن الأثير ج ١ ص ١٦١.

<<  <  ج: ص:  >  >>