وكانت حوادث شرقي الأندلس بالأخص، قد تطورت خلال ذلك، بصورة تدعو إلى القلق. ذلك أنه في الوقت الذي كانت جيوش عبد المؤمن، تعسكر فيه تحت أسوار المهدية، كان زعيم الشرق محمد بن سعد بن مَرْدَنيش، قد خرج من مدينة مرسية، بجيش مختلط من قواته، ومن حلفائه القشتاليين، وسار إلى مدينة جيّان، فلم يبد واليها الموحدي محمد بن علي الكومي أية مقاومة، وسلمها إليه، وانضوى تحت لوائه، وهو ما تعتبره الرواية الموحدية خيانة منه، ونكثاً لبيعته للموحدين. ثم سار ابن مردنيش من جيان إلى قرطبة، ونازلها بشدة، وعاث في ربوعها، وأتلف زروعها، فخرج إليه واليها أبو زيد عبد الرحمن ابن يكيت (أو يخيت) في قواته، واشتبك معه في معركة شديدة، ثم ارتد إلى المدينة، وامتنع بها، فضرب ابن مردنيش الحصار حول قرطبة، ولبث يرقب فرصة الاستيلاء عليها، ولكن ابن يكيت، وقاضي المدينة أخيل ابن إدريس لجآ إلى حيلة أو خدعة حربية، فكتبا على لسان سيدراي بن وزير إلى ابن مردنيش كتاباً، وبعثا به إلى ابن مردنيش، على يد رسول متنكر في صفة زيات من أهل الشرق، وفيه يحث ابن وزير، ابن مردنيش، بأن يسرع بالإقلاع من قرطبة، والسير إلى إشبيلية لأنها دون دفاع. فآمن ابن مردنيش بالخدعة وبادر في الحال بالسير إلى إشبيلية، وسبقه من قرطبة جاسوس موحدي إلى إشبيلية، فأخطر ولاة الأمر بما حدث، واعتقد هؤلاء في صحة ما نسب إلى ابن وزير، فقبض عليه واعتقل. ووصل ابن مردنيش بقواته إلى إشبيلية، ونزل بظاهرها بموضع يعرف بألفونت، ونازلها ببعض قواته حتى وصل إلى باب قرمونة في شمالها الشرقي، وأقام أمامها ثلاثة أيام، وقد شاع الاضطراب في المدينة، وتوجس الناس شراً، وأبدى واليها السيد أبو يعقوب منتهى الحزم واليقظة في الدفاع عن المدينة، بمعاونة الأشياخ والطلبة والحفاظ الموحدين، ومعهم طائفة من جند الأندلس بقيادة أبى العلاء بن عزون صاحب شريش، وكان أشياخ إشبيلية وأعيانها يسهرون طول الليل فوق الأسوار، ويحرصون كل الحرص على ثقاف أبواب المدينة. واتخذ الموحدون داخل المدينة اجراءات صارمة، فقتلوا عدداً ممن لحقت بهم ريبة الغدر، واعتقلوا الكثير من الناس. وأدرك ابن مردنيش أمام ذلك كله، أنه قد خدع بما جاء في الخطاب المزور، وأن إشبيلية ليست بغية هينة، فغادرها وارتد على عقبيه، دون أن يفوز بطائل.