للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بلده، ثم عبر البحر إلى الأندلس في أوائل سنة ٥٠٧ هـ، ودرس أولا بقرطبة، وأخذ فيها عن ابن عتاب وابن حمدين وابن الحاج وغيرهم. وقصد بعد ذلك إلى مرسية، وسمع بها على حافظها أبى علي الصدفي ولازمه حيناً. ثم عاد إلى سبتة بعد أن قضى بالأندلس نحو عام ونصف، وجلس للدرس والمناظرة ثم الشورى.

وفي سنة ٥١٥ هـ، ولى القضاء، وكان ما يزال شاباً في الثلاثين من عمره، فسلك فيه طريقة مشكورة، وأبدى حزماً في تطبيق الأحكام والحدود، واشتهر بغزير علمه وحفظه، وصدق طريقته، ودقة فتياه. ثم ولي قضاء غرناطة في سنة ٥٣١ هـ، فقام به خير قيام، وأعرض عن الشفاعات والمؤثرات، وصد أهل السلطان عن الباطل، وتسبب في تشريدهم عن الأعمال، فاستاء الأمير تاشفين بن علي، لمسلكه، وضاق به ذرعاً، وسعى في صرفه عن قضاء غرناطة. فصرف عنه في رمضان سنة ٥٣٢ هـ، وعاد إلى سبتة، ولبث بها مدة وهو عاكف على التدريس والفتيا. ثم ولى قضاء سبتة للمرة الثانية في سنة ٥٣٩ هـ. ولما ظهر أمر الموحدين، بادر بالدخول في طاعتهم، فأقره عبد المؤمن على ما كان عليه، وصرف إليه شئون سبتة، وحظى لديه بالتنويه والتقدير، ثم رحل إليه ولقيه في سلا، وهو يتأهب للسير لحصار مراكش (سنة ٥٤٠ هـ)، فأجزل الخليفة صلته وعاد إلى سبتة، وهنا وقع الاضطراب بسبتة وخلع أهلها طاعة الموحدين، وقتلوا عاملها الموحدي، ونسب التحريض في ذلك إلى القاضي عياض.

وكان القاضي قد اتصل بيحيى بن غانية، وانقلب على الموحدين، فلما قدم الموحدون إلى سبتة، وشددوا في حصارها، عاد القاضي فسعى في الاعتذار إليهم، واستدرار عطفهم، فصفحوا عنه، وعن أهل سبتة، وسار القاضي بعد ذلك إلى مراكش (سنة ٥٤٣ هـ) ليستعطف الخليفة ويلتمس صفحه، فعفى عنه عبد المؤمن، وأكرم وفادته، وعينه بمجلسه، ثم مرض عياض بعد ذلك وتوفي بمراكش، في الليلة التاسعة من جمادى الآخرة سنة ٥٤٤ هـ (١١٤٩ م)، وذلك كله حسبما سبق أن فصلناه في موضعه.

وكان القاضي عياض من أكابر الحفاظ، ومن أعظم أئمة عصره في الحديث، وفي فهم غريبه ومشكله ومختلفه، بارعاً في علم الأصول والكلام، حافظاًْ للمختصر والمدونة، متمكناً من الشروط والأحكام، أبرع أهل زمانه في الفتيا، متقناً للنحو واللغة، أديباً كبيراً، وشاعراً مجيداً، حسن التصرف في النظم،

<<  <  ج: ص:  >  >>