للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حاصر شنترين وبالغ في التضييق عليها، وانتساف أقواتها، وقطع المؤونة والمدد عنها، لم يزد ذلك أهلها إلا حزماً في الدفاع، وجلداً في تحمل مشاق الحصار، فخشى الموحدون هجوم البرد، إذ كان الوقت آخر فصل الخريف، وخافوا أن يفيض النهر فلا يستطيعون عبوره، وتنقطع عنهم الأمداد، فأشاروا على أمير المؤمنين بالارتداد عن شنترين والرجوع إلى إشبيلية، فإذا تغيرت الظروف، عاد الموحدون إلى حصارها، وصوروا له أن الأمر هين، وأن المدينة تعتبر غنماً في يده لا يمنعه عنها مانع، فاستمع الخليفة إلى نصحهم، وقال نحن راحلون غداً إن شاء الله، ولم يقف أحد على هذا القول سوى الخاصة، وكان أول من قوض خباءه وأظهر الأخذ بأهبة الرحل، أبو الحسن علي بن عبد الله المعروف بالمالقي، وكان من أكابر البلاط الموحدي، ويوصف بخطيب الخلافة، فلما رأى الناس صنعه، حذوا حذوه لما يعلمونه من وقوفه على أسرار الدولة، وعبر النهر في تلك العشية أكثر العسكر، يريدون التقدم خشية الزحام، ولم يبق إلا من كان بقرب خباء أمير المؤمنين، وبات الناس يعبرون الليل كله، وأمير المؤمنين لا علم له بما حدث (١). وينقل ابن خلكان هذه الرواية بنصها وتفاصيلها في ترجمة الخليفة أبي يعقوب (٢).

ونلاحظ فيما يتعلق بهذه الرواية أن حصار شنترين لم يقع في أواخر الخريف، ولكنه وقع أواخر شهر يونيه سنة ١١٨٤ م، أعني في أوائل الصيف، وقد رأينا أن الحصار، وفقاً لرواية شاهد العيان، وكذلك وفقاً للرواية النصرانية، لم يدم سوى عدة أيام (٣). وعلى ذلك فإن تعليل الارتداد باقتراب الشتاء، والخوف من فيضان النهر ليس بالتعليل المقنع، وإن كان على أي حال محاولة لتفسير تصرف الخليفة الموحدي.

هذا، وهنالك محاولة أخرى من جانب الرواية الإسلامية لتفسير ما حدث في المعسكر الموحدي، هي رواية صاحب روض القرطاس، وهي أنه لما أمر أمير المؤمنين بانتقال الجيش من موضع نزوله إلى موضع آخر، أنكر الناس ذلك


(١) المراكشي في المعجب ص ١٤٥.
(٢) وفيات الأعيان ج ٢ ص ٤٩٤.
(٣) ذكر ابن الأثير في حوادث سنة ٥٨٠ هـ، أن الخليفة أبا يعقوب حاصر شنترين مدة شهر (ج ١١ ص ١٩٠). وينقل ابن خلكان هذه الرواية (ج ٢ ص ٤٩٢).

<<  <  ج: ص:  >  >>