للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كان سقوط الدولة الأموية بالمشرق مأساة من أروع مآسي التاريخ الإسلامي، وكانت تلك الشخصية التي قامت على كاهلها دعائم الدولة الجديدة، من أعظم شخصيات الحرب والسياسة. كان عبد الرحمن الأموي يتمتع بعبقرية ممتازة وخلال نادرة. وكان قرين جده العظيم معاوية بن أبي سفيان، ينشئ مثله دولة، ولكن في ظروف أسوأ من ظروفه، ويهزم الخطوب والحوادث، ويسحق خصومه في كل ميدان، ويوثر مثل السياسة العملية على كل اعتبار، ويذهب توا إلى الغاية بأي الوسائل. وكانت المحنة المروعة التي نزلت بأسرته، والظروف العصيبة التي يواجهها، والخصومات والأحقاد المستمرة التي تحيط به، تحمل خلاله القوية إلى ذروة التطرف، وتدفعه إلى التذرع بأشد الوسائل. فنراه يقرن وافر العزم بفيض من الجرأة والمغامرة واحتقار الخطر، ويقرن وافر الدهاء بنزوع إلى الخيانة والغدر والفتك، ويقرن وافر الحزم والصرامة بنزوع إلى القمع الذريع، ويذهب في الانتقام إلى حدود مروعة من القسوة. ومع ذلك فقد كان عبد الرحمن وفياً يحفظ العهد والصنيعة لمن أخلص له، وإن لم يحجم لأقل ريب أو بادرة عن الفتك بأعز أصدقائه وأقرب الناس إليه. وقد رأينا هذه الخلال واضحة بارزة، في كثير مما تقدم من حوادث حياته ونضاله، فرأيناه مرارا يلجأ إلى الغدر والاغتيال للتخلص من خصومه، ورأيناه في مواطن كثيرة يزهق دون تردد، كل من وقع في يده من أولئك الخصوم أو من ولدهم وصحبهم الأبرياء. وذهب عبد الرحمن في صرامته وقسوته إلى البطش بكثير من أصدقائه، الذين آزروه يوم مقدمه، شريدا لا عصبة له، وقاتلوا معه وقادوه إلى الظفر والحكم، وكان قد أولاهم في المبدأ ثقته وجعلهم عماد دولته. ومن هؤلاء بدر مولاه الذي جاب معه القفر وخاض الغمار، وكان مثالا للشجاعة والدهاء وبعد النظر، فإنه قدر في البداية خلاله وكفايته وولاه القيادة واختصه بأسمى المناصب والمهام، ولكنه تغير عليه في أواخر عهده، لما أبداه من التذمر وعدم الرضى، ولما وجهه إليه من عتاب خشن تجاوز فيه حد اللياقة، فنكبه وجرده من مناصبه وأمواله، وشرده عن قرطبة إلى قاصية الثغر، ولم يستمع إلى تضرعه حتى مات في فقر وضعة (١). ومنهم أبو عثمان رأس أنصاره،


(١) راجع نفح الطيب ج ٢ ص ٦٩ و٧١، حيث يورد طرفا من الرسائل التي تبادلها عبد الرحمن وبدر، والتي انتهت بنكبة بدر. وراجع الإحاطة لابن الخطيب (١٩٥٦) ج ١ ص ٤٥٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>