للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صلاح الدين، ومن الممكن أن يكون تصرف قراقوش قد وقع بإيحاء السلطان، حتى لا تعتور الصعاب مهمة سفيره لدى البلاط الموحدي. بيد أننا لا نميل إلى الأخذ بهذا الرأي، لأن قراقوش لم يكن إلا مغامراً لا ذمام له، ولا يدين في الظروف التي كان يجوزها بدين الولاء لأحد. وقد أقدم قراقوش من قبل على مثل هذه الخطوة حينما كتب إلى المنصور عقب موقعة الحمّة بعرض التوبة والطاعة. ومن ثم فإنا نراه بعد فترة يسيرة من التظاهر بطاعة الموحدين، يفر من تونس ليستأنف مغامراته، وذلك قبل أن ينتهي ابن منقذ من تأدية سفارته. ولما وصل قراقوش إلى قابس، استطاع أن يدخلها مخادعة، وقتل جماعة من أهلها، وأعلن خروجه على الموحدين مرة أخرى، واستدعى أشياخ العرب من ذباب وسليم، فقتل سبعين منهم، ومن بينهم محمود بن طوق بن بقية زعيم المحاميد، وحميد بن جارية، وذلك داخل قصر العروسين بقابس (١). ثم سار إلى طرابلس فاستولى عليها من يد حاكمها الموحدي، وسار بعد ذلك إلى بلاد الجريد فاستولى على معظم أنحائها. وكانت بلاد الجريد مقر حليفه يحيى بن غانية. وعندئذ وقع الخلاف بينهما، وسار يحيى لقتال حليفه السابق، فالتقيا بموضع يعرف " بمحسن من أعمال طرابلس، فهزم قراقوش هزيمة شنيعة، وفر إلى الجبال، وأتبع يحيى نصره بانتزاع طرابلس من يد ياقوت نائب قراقوش، وذلك بعد حصارها من البحر بمركبين بعث بهما إليه أخوه عبد الله والي ميورقة، وقبض على ياقوت وأرسله مصفداً إلى ميورقة، فلبث سجيناً بها، حتى استولى الموحدون على ميورقة سنة ٥٩٩ هـ، وعندئذ أفرج عنه، وقصد إلى مراكش. وعين يحيى ابن عمه تاشفين بن غازي نائباً عنه بطرابلس، وغادرها ليتابع مغامراته. فلم يمض سوى قليل حتى ثار أهل طرابلس بنائب الميورقي وأخرجوه منها، وأعلنوا طاعتهم للموحدين مرة أخرى (٢).

ونحن نقف في حوادث إفريقية عند هذا الحد، لنعود إلى تتبع حركات يحيى بن غانية، الذي قدر له أن يمضي في قيادة المعركة ضد الموحدين زهاء خمسين عاماً، وهو ينزل بقواتهم الضربة تلو الأخرى، وسلطان الدولة الموحدية بإفريقية يهتز ويتصدع تباعاً.


(١) رحلة التجاني ص ١٠٤، وابن خلدون في العبر ج ٦ ص ١٩٣.
(٢) رحلة التجاني ص ٢٤٤ و ٢٤٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>