للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم أمر بالحركة والعود، وسار بطريق وبذة. وهنا اتجه المنصور، وفقاً للرواية

النصرانية شرقاً نحو قونقة وحاصرها، ثم ارتد نحو أقليش وسار منها جنوباً نحو الكرس وبيّاسة، ووصل إلى قرطبة في أواخر رمضان سنة ٥٩٣ هـ، ثم غادرها في الحال إلى إشبيلية، فوصلها في يوم عيد الفطر (أغسطس سنة ١١٩٧ م) وذلك بعد أن أنفق في غزوته الثانية لأراضي قشتالة أربعة أشهر (١).

وما كاد المنصور يستقر في إشبيلية، حتى عنى بإتمام الأعمال الأخيرة لصومعة الجامع الأعظم (المنارة) وهي التي كان أبوه الخليفة أبو يعقوب يوسف، قد أمر ببنائها قبل خروجه إلى غزوة شنترين في سنه ٥٨٠ هـ. وكان المنصور قد أمر بالمضي في إنشائها عقب توليه الخلافة. ووضع العريف أحمد بن باسُه أسسها لصق الجامع ثم تعطل البناء حيناً لعزل بعض العمال المختصين، أو لغير ذلك من الأسباب. وفي سنة ٥٨٤ هـ (١١٨٨) بعد أن فرغ المنصور من غزواته بإفريقية، أصدر أمره بإصلاح ما اختل من الجامع الأعظم وإتمام بناء صومعته. ويقول لنا ابن صاحب الصلاة، وهو حسبما أشرنا من قبل غير مرة مؤرخ معاصر وشاهد عيان، أنه شُرع في بناء الصومعة بالآجر الذي يؤخذ من سور قصر ابن عباد، ودام العمل في ذلك أعواماً، يجري البناء فيها بصورة متقطعة، فإذا حضر الخليفة إلى إشبيلية، ضوعفت الهمة في البناء، وإذا غادرها إلى الحضرة تعطل البناء، ثم يُستأنف متى حضر. وكان الخليفة المنصور كأبيه الخليفة أبي يعقوب، شغوفاً بالبناء، وكان وقت وجوده بإشبيلية، يلازم في أوقات فراغه الإشراف على أعمال البناء بنفسه، واستمر الأمر كذلك حتى عاد المنصور من موقعة الأرك مكللاً بغار الظفر، وأصدر أوامره بمضاعفة الهمة لإتمام الصومعة، ولما عاد إلى إشبيلية من غزوته الأخيرة، كان بناء الصومعة قد تم، ولم تبق سوى أعمال التجميل. وبالرغم من أن المنشآت الموحدية، كانت حتى ذلك العهد تقتصر على مراعاة الروعة والمتانة، ولا تميل إلى الزخرف والزينة، فقد أصدر الخليفة أمره، بأن تزود صومعة الجامع بتفافيحها الذهبية الشهيرة. وإليك كيف يصف لنا ابن صاحب الصلاة قصة هذه التفافيح، ورفعها إلى أعلى المنارة، في حفل كان من شهوده:


(١) البيان المغرب - القسم الثالث ص ٢٠٣، وابن خلدون ج ٦ ص ٢٤٥. وراجع:
Altamira: Historia de Espana; Vol. I. p. ٣٦٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>