للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكان الحكم أميراً قوي النفس، وافر العزم، فطناً، حسن التدبير، واسع الحيلة، نافذ الرأي والحزم، صارماً يؤثر وسائل الطغيان المطلق، شديد الاستئثار بسلطانه، حريصاً على حمايته من كل تدخل أو نفوذ. وكان مثل جده عبد الرحمن الداخل يلتمس الغاية بأي الوسائل، ويذهب في صرامته وطغيانه إلى حد القسوة والقمع الذريع، ولم يكن يحجم مثله عن الالتجاء إلى وسائل لا تقرها المبادئ الأخلاقية القويمة. وكان شغوفاً بأبهة الملك، مسرفاً في مظاهر البذخ الطائل، كثير الترفع عن العامة، ولم يكن كأبيه وجده محبباً إلى الشعب، بل كان بالعكس مكروهاً من الكافة، وكان الفقهاء يبثون هذا البغض في نفوسهم بوسائلهم الخاصة، لما عمد إليه الحكم من سحق سلطانهم ونفوذهم. ومع ذلك فقد كان الحكم بالرغم من عسفه وطغيانه، أميراً مستنيراً، يؤثر العدل، ويحرص على إقامته، ويختار لقضائه أفضل الناس، وأكثرهم نزاهة وورعاً، وكان يسلط قضاته على نفسه، وعلى ولده وخاصته. وكان قاضيه محمد بن بشير من أعظم القضاة نزاهة واستقلالا في الرأي والحكم (١).

وقد أشرنا فيما تقدم إلى أن الحكم كان أول من أظهر فخامة الملك بالأندلس، والواقع أنه أول من أنشأ بالأندلس بلاطاً إسلامياً ملوكياً بكل معاني الكلمة، ورتب نظمه ورسومه، وأقام له بطانة ملوكية فخمة، فاستكثر من الموالي والحشم، وأنشأ الحرس الخاص، وفي عهده ظهر الصقالبة لأول مرة في البلاط بكثرة، وكان جده عبد الرحمن الداخل أول من وضع سياسة اصطفاء الموالي لاسترابته بالعرب كما قدمنا، وتوسع حفيده الحكم في تطبيق هذه السياسة، فاستكثر من الموالي والصقالبة، وعهد إليهم بمعظم شئون القصر والخاص. وكان هؤلاء الصقالبة (٢) على الأغلب من الرقيق والخصيان، الذين يؤتى بهم بالأخص من بلاد الفرنج وحوض الدانوب وبلاد اللونبارد ومختلف ثغور البحر الأبيض النصرانية، وكان يؤتى بهم أطفالا من الجنسين ويربون تربية إسلامية، ثم يدربون على أعمال البطانة وشئون القصر، وقد سما شأنهم فيما بعد، وتولوا مناصب الرياسة والقيادة،


(١) أخبار مجموعة ص ١٢٤؛ والبيان المغرب ج ٢ ص ٨٠؛ والمعجب ص ١١.
(٢) يرى البعض أن كلمة صقالبة قد اشتقت في الأصل من كلمة Esclave الإفرنجية.
ومعناها الرقيق أو الأسير. راجع Reinaud: ibid , p. ٢٣٧

<<  <  ج: ص:  >  >>