للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

- ٢ -

وفي تلك الآونة العصيبة، التي أخذت فيها قواعد الأندلس العظيمة: قرطبة، وبلنسية ومرسية وإشبيلية، تسقط تباعاً في يد النصارى، والتي أخذت الأندلس تواجه فيها شبح الفناء من جديد كما واجهته أيام الطوائف، كانت عناصر الفتنة والفوضى تتمخض عن قيام مملكة إسلامية جديدة في جنوبى الأندلس هي مملكة غرناطة. وقيام هذه المملكة في الطرف الجنوبى للدولة الإسلامية القديمة، يرجع إلى عوامل جغرافية وتاريخية واضحة. ذلك أن القواعد والثغور الجنوبية التي تقع فيما وراء نهر الوادى الكبير آخر الحواجز الطبيعية، بين اسبانيا النصرانية وبين الأندلس المسلمة، كانت أبعد المناطق عن متناول العدو وأمنعها، وكانت في الوقت نفسه أقربها إلى الضفة الأخرى من البحر، إلى عُدوة المغرب وشمال إفريقية حيث تقوم دول إسلامية شقيقة، وحيث تستطيع الأندلس وقت الخطر الداهم، أن تستمد الغوث والعون من إخوانها في الدين. وقد كان لها في ذلك منذ أيام الطوائف أسوة، بل لقد كان صريخ الأندلس يتردد في تلك الآونة ذاتها على لسان شاعرها وسفيرها ابن الأبار القضاعى، حينما دهم العدو بلنسية في سنة ٦٣٥ هـ (١٢٣٧ م)، وكان الصريخ موجهاً من أميرها أبي جميل زيان، إلى أبي زكريا الحفصى ملك إفريقية (تونس)، وهو الذي ردده الشاعر في قصيدته الشهيرة التي مطلعها: (١)

أدرك بخيلك خيل الله أندلسا ... إن السبيل إلى منجاتها درسا

وهب لها من عزيز النصر ما التمست ... فلم يزل عز النصر منك ملتمسا

وحاش مما تعانيه حشاشتها ... فطالما ذاقت البلوى صباح مسا

يا للجزيرة أضحى أهلها جزراً ... للحادثات وأمسى جدها تعسا

في كل شارقة إلمام بائقة ... يعود مأتمها عند العدا عرسا

وكل غاربة إجحاف نائبة ... تثنى الأمان حذاراً والسرور أسى

تقاسم الروم لا نالت مقاسمهم ... إلا عقائلها المحجوبة الأنسا

وفي بلنسية منها وقرطبة ... ما ينسف النفس أو ما ينزف النَّفسا

مدائن حلها الإشراك مبتسما ... جذلان وارتحل الإيمان مبتئسا

وصيرتها العوادى العابثات بها ... يستوحش الطرف منها ضعف ما أنسا


(١) تراجع هذه القصيدة في نفح الطيب ج ٢ ص ٥٧٨ وما بعدها؛ وفي أزهار الرياض ج ٣ ص ٢٠٧ وما بعدها، وهي من غرر القصائد الأندلسية السياسية.

<<  <  ج: ص:  >  >>