الأندلسية الكثيرة، وتضاؤل المملكة الإسلامية، فى مركز التفوق والغلبة، لم يكن ثمة ما يدعو لأن تتخذ حرب الإسترداد التى تلت بعد ذلك، بين اسبانيا النصرانية وبين مملكة غرناطة، ألوانا دينية أو قومية عميقة. ذلك أن معركة السلطان قد بُتّ فيها نهائيا بظفر اسبانيا النصرانية، وأضحى القضاء على الأندلس مسألة وقت فقط. وكانت اسبانيا النصرانية كلما حاولت أن تتعجل تحقيق هذه الغاية القومية الخطيرة، عاقتها المنازعات والثورات الداخلية، أو ردها تدخل الدولة الإسلامية القوية فيما وراء البحر. على أنه ما كاد يبدو تفكك المملكة الإسلامية قوياً واضحاً، وما كادت حرب الإسترداد تدخل فى طورها الأخير، حتى بدت النزعة القومية والدينية واضحة قوية، فى جهود اسبانيا النصرانية للقضاء على مملكة غرناطة. ولما اتحدت اسبانيا النصرانية نهائيا، وتم اندماجها فى مملكة موحدة بزواج فرناندو ملك أراجون وإيسابيلا ملكة قشتالة، اتخذت حروب غرناطة الأخيرة لوناً صليبياً عميقاً، يذكيها ويزيد فى ضرامها حماسة هذه الملكة الورعة المتعصبة، ومن حولها الأحبار المتعصبون، وأسبغ على فرناندو لقب "الكاثوليكى" وعلى إيسابيلا لقب "الكاثوليكية"، وكان أول عمل قام به الجند القشتاليون حينما دخلوا غرناطة فى الثانى من يناير سنة ١٤٩٢، أن رفعوا الصليب فوق أبراج الحمراء، ورفعوا إلى جانب علم قشتالة علم القديس ياقب، وأقام الرهبان القدّاس داخل قصر الحمراء، ودفنت الملكة إيسابيلا وزوجها الملك فرناندو فى كتدرائية غرناطة التى أقيمت فوق أنقاض المسجد الجامع، تنويهاً بظفرهما على الإسلام. وكانت سياسة اسبانيا النصرانية إزاء الأمة الأندلسية المغلوبة، منذ إكراهها على التنصير فى عصر فرناندو حتى مأساة النفى النهائى فى عصر فيليب الثالث، تقوم على بواعث دينية وصليبية محضة، يصوغها ويمليها أحبار الكنيسة، ويدعمها ديوان التحقيق بقضائه الكنسى المروع ووسائله الدموية؛ وعلى الجملة فقد كانت جهود اسبانيا النصرانية فى القضاء على الأمة الأندلسية، تمثل منذ بدايتها إلى نهايتها مأساة من أروع وأشنع مآسى التعصب الدينى والقومى التى عرفها التاريخ.
وتلك المأساة التى استطالت منذ قيام مملكة غرناطة زهاء مائتين وخمسين عاماً هى التى نستعرض حوادثها وظروفها فيما يلى من فصول هذا الكتاب.