للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثغر ما يزال منذ عصور أمنع ثغور المسلمين وأشدها مراسا. فلما رأى النصارى استحالة أخذه عنوة، ضربوا حوله الحصار الصارم، وكانت تدافع عنه حامية مغربية قوية، ورابط ملك غرناطة بجيشه فى مؤخرة النصارى؛ واستمر حصار جبل طارق زهاء عام كامل والمسلمون صامدون كالصخرة التى يدافعون عنها، وقد عيل صبر الغزاة ودب الوهن إلى نفوسهم. ثم فشا الوباء فى الجيش النصرانى وهلك ملك قشتالة فى مقدمة من هلك من جنده، فكان ذلك نذيراً بخلاص الثغر المنيع والمدافعين عنه، واضطر النصارى إلى رفع الحصار (٧٥١ هـ - ١٣٥٠ م).

وأنقذ المسلمون بذلك من كارثة فادحة، وأبدى المسلمون بهذه المناسبة ضروبا موثرة من تسامح الفروسة، فتركوا موكب الملك المتوفى، يخترق طريقه إلى إشبيلية دون تعرض، وارتدى كثير من أكابرهم شارة الحداد مجاملة وتكريما، وخلف ألفونسو على العرش فى الحال ولده بيدرو (بطره) الملقب بالقاسى (١).

ووصف ابن الخطيب كاتب الأندلس وشاعرها، وقد كان يومئذ من كتاب السلطان يوسف، هذه الأحداث الخطيرة فى رسالة بعث بها السلطان إلى ملك المغرب، وفيها يشير إلى مهاجمة العدو لجبل طارق وطمعه فى الاستيلاء على الأندلس ويقول: "وانتهز الفرصة بانقطاع الأسباب وانبهام الأبواب، والأمور التى لم تجر للمسلمين بالعدوتين على مألوف الحساب، وتكالب التثليث على التوحيد، وساءت الظنون فى هذا القطر الوحيد، المنقطع بين الأمة الكافرة، والبحور الزاخرة والمرام البعيد" ثم يصف كيف تداركت رحمة الله الأندلس بعد ذلك فهزم العدو ولم يبلغ مراما (٢).

وكان لحصار جبل طارق، ومصرع ملك قشتالة تحت أسواره، صدى عميق فى المغرب وفى أنحاء العالم الإسلامى. ويشير الرحالة الأشهر ابن بطوطة الطنجى الذى زار الأندلس بعد ذلك بقليل فى رحلته إلى تلك الحوادث، وإلى ما كان يتصوره ملك قشتالة، من أنه أضحى على وشك الاستيلاء على ما بقى من بلاد الأندلس، فأخذه الله من حيث لم يحتسب ومات بالوباء، وقد كان من أشد الناس خوفاً منه، ثم يصف لنا أهمية جبل طارق الدفاعية وما بذله السلطان أبو الحسن عقب استرداده من جهود فادحة لتحصينه، وتجديد أسواره وحصونه، وإنشائه لدار الصناعة، وما قام به ولده السلطان أبو عنان بعد ذلك من تجديد تحصيناته، وشحنه


(١) ابن خلدون ج ٤ ص ١٨٣.
(٢) راجع هذه الرسالة فى نفح الطيب ج ٢ ص ٥٧٠ و ٥٧١.

<<  <  ج: ص:  >  >>