وكما أن مصادرنا الإسلامية فى هذا القسم من تاريخ الأندلس قليلة ضنينة، فهى كذلك بالنسبة لصور الحضارة الأندلسية، وقد هلكت معظم الآثار والوثائق الأندلسية المتعلقة بهذا العصر، كما رأينا على يد الإسبان، ولم يسعفنا فى ذلك سوى بعض الآثار القليلة الباقية، التى نجت من المحنة، ولاسيما آثار ابن الخطيب، وما نقله إلينا المقرى عن آثار ووثائق ضاعت، وكان له فضل إيصالها إلينا.
...
وإذا كان تاريخ الأندلس السياسى، يقدم إلينا صوره المتباينة، من الإضطرام والركود، والقوة والضعف، فكذا شأن الحضارة الأندلسية. فقد وصلت فى ظل الخلافة الأموية فى عهد عبد الرحمن الناصر وولده الحكم المستنصر، حينما وصلت الدولة الإسلامية إلى أوج سلطانها السياسى، إلى ذروة القوة والبهاء، وإن لم تصل يومئذ إلى ذروة نضجها الفكرى. ولما انهارت الخلافة الأموية، واضمحلت النظم السياسية والاجتماعية، وسادت الثورة والفوضى أرجاء الأندلس، وهلكت معظم الآثار العمرانية والفكرية فى غمر الفتنة، ذوت الحضارة الأندلسية مدى حين، حتى قامت دول الطوائف فوق أنقاض الدولة الأموية، واستطاعت بالرغم من صغرها، وتنافسها وتطاحنها فى ميدان الحرب، أن تعيد لمحة من بهاء الدولة الإسلامية، وسطعت آيات الحضارة الأندلسية فى قصورها ومنشآتها، وفى مجتمعاتها، وأينعت فى ظلها دولة التفكير والأدب، وعرفت الأندلس فى هذه الحقبة المضطربة من تاريخها، طائفة من أعظم مفكريها وأدبائها وشعرائها، مثل الفيلسوف ابن حزم المتوفى سنة ٤٥٦ هـ (١٠٦٤ م) وابن حيان أعظم مؤرخى الأندلس، وقد توفى سنة ٤٦٩ هـ (١٠٧٦ م)، وتلميذه الحميدى المتوفى سنة ٤٨٨ هـ (١٠٩٥ م). ومن الأدباء والشعراء، ابن زيدون المتوفى سنة ٤٦٢ هـ (١٠٦٩ م)، وابن عبدون المتوفى سنة ٥٢٠ هـ (١١٢٦ م) وعشرات آخرين من الكتاب والشعراء، يقدمهم إلينا الفتح بن خاقان فى مؤلفه "قلائد العقيان". بل لقد كان ملوك الطوائف أنفسهم فى طليعة العلماء والأدباء والشعراء، مثل الأمير العالم عمر بن الأفطس صاحب بطليوس، والشاعرين الكبيرين، المعتمد بن عباد صاحب إشبيلية، والمعتصم بن صمادح صاحب ألمرية (١). ولكن
(١) توفى ابن الأفطس قتيلا بيد المرابطين سنة ٤٨٨ هـ، وتوفى ابن عباد فى الأسر بالمغرب فى شوال سنة ٤٨٨ هـ؛ وتوفى المعتصم بن صمادح فى سنة ٤٨٤ هـ