للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وبدأت قواعد الأندلس التالدة، تسقط تباعاً فى يد النصارى. وشغلت الأندلس يمحنتها الغامرة، وانصرفت إلى متابعة الجهاد، ومدافعة المغيرين عليها بكل ما وسعت، فانكمشت فنون السلم، وتضاءلت دولة التفكير والأدب، وإن كانت المحنة قد أذكت لوعة الشعر، وبعثت إلينا بطائفة جمة من أروع المراثى، التى ما زالت تحتفظ إلى يومنا بكثير من قوتها وروعتها.

- ٢ -

وانجلت الفتن الداخلية، وانجلى الصراع بين اسبانيا المسلمة واسبانيا النصرانية بعد نحو ثلث قرن، عن سقوط معظم القواعد الأندلسية التالدة، مثل قرطبة وإشبيلية وبلنسية ومرسية وجيان وغيرها، فى أيدى النصارى، وانكمشت رقعة الأندلس تباعاً، وانحصرت فى الركن الجنوبى الغربى للمملكة الإسلامية القديمة، فى مملكة غرناطة الصغيرة، التى برزت من غمر الفوضى، واستقرت فى رقعتها المتواضعة، بين نهر الوادى الكبير والبحر، وهرعت إليها معظم الأسر الأندلسية القديمة، التى أبت التدجن والبقاء فى ظل حكم النصارى، ولم يمض سوى قليل، حتى غدت مستودع تراث الأئدلس القومى والسياسى، ومستودع الحضارة الأندلسية والتفكير الأندلسى.

وكانت مملكة غرناطة، بالرغم من صغرها وانكماش رقعتها، تضم ثروات عظيمة من الموارد الطبيعية، فإلى جانب وديانها الخصبة النضرة التى تغص بالبسائط الخضراء والجنات الفيحاء، والتى تجود بها الحبوب والكروم والزيتون والفواكه وغيرها، توجد الجبال الوعرة تخترقها من كل صوب، وبها الكثير من الثروات المعدنية، ومن بينها الذهب والفضة والرصاص والحديد (١). وتفيض الأنهار والنهيرات العديدة على بسائطها الماء الغزير. وكانت ثغورها وهى ثغور الأندلس الجنوبية، ولاسيما مالقة وألمرية، من أغنى الثغور الإسبانية وأزخرها بالحركة التجارية، وكانت ولاية غرناطة وحدها تضم من البلاد والقرى العامرة نيفاً ومائة بلدة وقرية ذكرها لنا ابن الخطيب، وقد دثر الكثير منها اليوم (٢). أما غرناطة عاصمة المملكة، فقد غدت عقب سقوط القواعد الأندلسية الأخرى فى يد النصارى، أعظم القواعد الأندلسية الباقية، وأغناها وأكثرها ازدحاماً بالسكان. وكانت بحمرائها المطلة عليها من ربوتها المنيعة، وشوارعها الزاخرة، وميادينها الفسيحة، وقصورها


(١) الإحاطة فى أخبار غرناطة (القاهرة ١٩٥٦) ج ١ ص ١٠٤.
(٢) الإحاطة، ج ١ ص ١٣٣ - ١٣٨

<<  <  ج: ص:  >  >>