وكان الوزير ابن زَمرك، تلميذ ابن الخطيب وخلفه فى الوزارة، أعظم شخصية تزعمت من بعده الحركة الأدبية بالأندلس. وهو محمد بن يوسف بن محمد الصريحى الشهير بأبى عبد الله بن زمرك، أصله من شرقى الأندلس، ونزحت أسرته إلى غرناطة. واستقرت بربض البيازين حى غرناطة الشمالى. وبه ولد أبو عبد الله سنة ٧٣٣ هـ (١٣٣٣ م) ودرس دراسة حسنة فى غرناطة وفاس، وخدم حيناً فى بلاط السلطان أبى سالم المرينى. ولما نفى السلطان الغنى بالله إلى المغرب، اتصل به ابن زمرك وانقطع إليه. ثم عاد حين استرد ملكه، فولاه كتابة السر وغمره بعطفه.
وظهر ابن زمرك يومئذ ببارع أدبه، وروعة نظمه ونثره؛ وينوه ابن الخطيب
فى الإحاطة بذكائه وخلاله، وتفوقه فى الدرس والأدب، ويصفه بالعبارات الآتية:"شعلة من شعل الذكاء، تكاد تحتدم جوانبه، كثير الرقة، فكه، غزل، مع حياء وحشمة ... ثاقب الذهن، أصيل الحفظ، ظاهر النبل، بعيد مدى الإدراك "ثم يصف شعره بأنه" مترام إلى هدف الإجادة، كلف بالمعانى البديعة، والألفاظ الصقيلة، غزير المادة".
وعمل ابن زَمرك فى كتابة السر فى كنف ابن الخطيب وتحت رعايته. ولكنه
كان ضالعاً مع خصومه، فلما انقضت العاصفة على ابن الخطيب وأصابته المحنة، كان ابن زمرك فى طليعة أعدائه الساعين إلى هلاكه. وقد خلفه فى الوزارة عقب فراره، وهو الذى تولى مهمة السعى لدى بلاط فاس فى محاكمته وإعدامه حسبما أسلفنا.
واستمر ابن زمرك على حظوته ونفوذه أعواماً طويلة، ولكنه كان لطغيانه وغطرسته وحدة لسانه، يثير حوله كثيراً من البغض والخصومة. وفى أواخر عهد الغنى بالله فقد حظوته ونفوذه، واعتقل ونفى خارج غرناطة، ولكنه عاد بعد وفاته إلى الحضرة. وفى بداية عهد السلطان محمد بن يوسف الثانى، أعيد إلى الوزارة، فأساء السيرة، واشتد عيثه وطغيانه، وكثر خصومه. وفى ذات ليلة من أواخر سنة ٧٩٧ هـ (١٣٩٥ م) دهمه فى منزله جماعة من المتآمرين، فقتلوه وولديه وخدمه شر قتلة. وينوه المقرى بما فى ذلك من عبر الدهر، إذ كان ابن زمرك هو الساعى إلى مقتل أستاذه ابن الخطيب، فكان أن دارت عليه الدائرة، وقتل مثله ولكن بصورة أقسى وأشنع (١).
(١) نفح الطيب ج ٤ ص ٢٨٦ - ٢٩٠، وينقل إلينا المقرى ترجمة ابن زمرك عن كتاب معاصره الأمير اسماعيل بن الأحمر، وينقل إلينا فى أزهار الرياض كثيراً من موشحاته (ج ٢ ص ١٧٧ =