للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

- ٣ -

وكان عهد الأمير عبد الله يدنو عندئذ من نهايته، ولم تشهد الأندلس منذ عهد عبد الرحمن الداخل فترة كهذه، عمت فيها الفتنة وسرى ضرامها إلى كل ولاية وقاعدة، ولم ينكمش سلطان الدولة الأموية بالأندلس قدر انكماشه في تلك الفترة.

وكان على الأمير عبد الله أن يكافح دون هوادة لإنقاذ الدولة والعرش من خطر الانهيار، فقضى حكمه الذي استطال خمسة وعشرين عاماً في سلسلة لا نهاية لها من الفتن والغزوات والمعارك المستمرة، مزقت خلالها أوصال المملكة، واهتزت أسس الدولة إلى الأعماق، ونضبت قواها ومواردها. وبالرغم من أن الأمير عبد الله لم يوفق إلى القضاء على الثورة في سائر النواحي، فإنه استطاع أن يقضي على الخطر الداهم، وأن يمزق شمل الثوار، وأن يستميل نفراً من أخطر زعمائهم، وأن يبسط سلطان العرش من الناحية الإسمية على الأقل، على بعض القواعد الهامة مثل إشبيلية وسرقسطة. وكان لهذه النتائج الأولى أثرها فيما بعد في عهد خلفه عبد الرحمن الناصر، في التمهيد للقضاء على عناصر الثورة، وتوطيد سلطان الدولة والعرش.

ويحاول الوزير المؤرخ ابن الخطيب أن يلقي ضوءاً على أسباب ذيوع الثورة في الأندلس في هذا العصر في قوله: " والسبب في كثرة الثوار بالأندلس يومئذ ثلاثة وجوه: الأول، منعة البلاد وحصانة المعاقل، وبأس أهلها بمقاربتهم عدو الدين، فهم شوكة وحدٌّ بخلاف سواهم. والثاني، علو الهمم، وشموخ الأنوف، وقلة الاحتمال لثقل الطاعة، إذ كان من يحصل بالأندلس من العرب والبرابرة، أشرافاً يأنف بعضهم من الإذعان لبعض. والثالث، الاستناد عند الضيقة والاضطرار إلى الجبل الأشم، والمعقل الأعظم من مَلِك النصارى، الحريص على ضرب المسلمين بعضهم ببعض. فكان الأمراء من بني أمية يرون أن اللجاج في أمورهم، يؤدي إلى الأضلولة، وفيها فساد الأموال، وتعذر الجباية، وتعريض الجيوش إلى الانتكاب، وأولياء الدولة إلى القتل. ولا يقوم السرور بغلبة الثائر، بما يوازنه من ترحة هذه الأمور " (١).

ولم تترك مقارعة الثورة لعبد الله فرصة للقيام بغزوات في أراضي النصارى.


(١) أعمال الأعلام (طبع بيروت) ص ٣٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>