للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هذا ما تردده الرواية الإسلامية عن مصير موسى بن نصير. ومهما كان من الأمر، فإن فاتح الأندلس لم يلق الجزاء الحق، بل غمط حقه وفضله أشنع غمط، وأبدت الخلافة بهذا الجحود والنكران، أنها لم تقدر البطولة في هذا الموطن قدرها، ولم تقدر عظمة الفتح الباهر الذي غنمته على يد رجلها وقائدها.

وكان موسى بن نصير من أعظم رجال الحرب والإدارة المسلمين في القرن الأول للهجرة. وقد ظهرت براعته الإدارية في جميع المناصب التي تقلدها، كما ظهرت براعته الحربية في جميع الحملات البرية والبحرية التي قادها. على أن هذه المواهب تبدو بنوع خاص في حكمه لإفريقية، حيث كانت الحكومة الإسلامية تواجه شعباً شديد المراس، يضطرم بعوامل الانتقاض والفتنة، وإذا كان موسى قد أبدى في معالجة الموقف وإخماد الفتنة كثيرا من الحزم والشدة، فقد أبدى في الوقت نفسه خبرة فائقة بنفسية الشعوب، وبراعة في سياستها وقيادتها. وكان موسى فوق مواهبه الإدارية والعسكرية غزير العلم والأدب، متمكنا من الحديث والفقه، عالماً بالفلك مجيداً للنثر والنظم. غير أن هذه المواهب والخلال البديعة كانت تشوبها نزعة قوية إلى الطغيان والبطش، وشهوة الحقد والحسد (١).

وإلى موسى بن نصير يرجع الفضل الأول في عبور الإسلام إلى أوربا من الغرب وقيام دولته فيها، بعد أن اخفقت محاولته في العبور إليها من المشرق عن طريق قسطنطينية. ومع أن سيل الفتح الإسلامي رد غير بعيد في سهول بلاط الشهداء، فإن الإسلام استطاع مع ذلك أن يستقر في إسبانيا قروناً، يبهر بضوء مدنيته الزاهرة جميع الأمم الأوربية في العصور الوسطى.

* * *

هذا ما كان من شأن موسى ومصيره، فماذا كان مصير طارق؟ هذا ما تمر عليه الرواية الإسلامية بالصمت. وكل ما هنالك أنها تشير إلى ما كان من نية سليمان بن عبد الملك في تعيينه والياً للأندلس مكان موسى، وكيف عدل عن ذلك حينما وقف من مغيث الرومي فاتح قرطبة، على ماكان يتمتع به طارق في الأندلس من عظيم الهيبة والنفوذ، وذلك توجساً مما قد يجيش به من أطماع ومشاريع نحو ذلك


(١) نفع الطيب (ج ١ ص ١٣٣ و١٣٤).

<<  <  ج: ص:  >  >>