للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سرقسطة، فأرسل إليه يعده خيراً، وكتب كذلك إلى ألفونسو السادس، فبعث إليه يعده بالعون. واعتزم ابن جحاف مقاومة السيد إلى آخر لحظة، واستؤنفت الأعمال العدوانية بين الفريقين، وضرب السيد حول المدينة حصاراً صارماً، وعاث في الأنحاء المجاورة، ولم يدخر وسعاً في قطع الأقوات عن المدينة المحصورة خوفاً من أن تصمد له حتى يدهمه المرابطون، واستمر الحصار على هذا النحو عشرين شهراً، حتى بلغ الضيق بالبلنسيين المنتهى، وفتك بهم الجوع أيما فتك، " وأكلوا الفيران والكلاب والجيف " وغدوا كالأشباح هزالا (١). وقد وصف المؤرخ البلنسي المعاصر، محمد بن علقمة في تاريخه الذي سوف نشير إليه فيما بعد، بعض ما قاساه البلنسيون من المحن في تلك الآونة العصيبة، فذكرا " أن رطل القمح بلغ ثمنه مثقال ونصف، وأوقية الجبن ثلاثة دراهم، ورطل البقل بخمسة دراهم، وبيضة الدجاجة بثلاثة دراهم، ورطل اللحم بستة دنانير. وفي ربيع الأول (٤٨٦ هـ) عظم البلاء، وتضاعف الغلاء، واستوى في عدم القوت الفقراء والأغنياء، فأمر ابن جحاف اقتحام الدور بحثاً عن القوت. وأعاد استصراخ ابن هود، ورغبه في المال والبلد مع الأجر في استنقاذ المسلمين من القتل والأسر.

وترمق ساير الناس بالجلود والأصماغ وعروق السوس، ومن دون هؤلاء بالفيرة والقطط وجيف بني آدم. وهجم على نصراني وقع في الحفير فأخذ باليد، ووزّع لحمه. وجد الطاغية في حرق من خرج من المدينة إلى المحلة ليلا يخرج الضعفاء، ويتوفر القوت على الأغنياء. وبان على الناس الإحراق بالنار، فعيث فيهم بالقتل، وعلقت جثثهم على صوامع الأرباض وبواسق الأشجار. ودخل جمادى الأولى وعدمت الأقوات بالجملة، وهلك الناس، ولم يبق من ذلك الجم إلا النزر اليسير، وتوالى اليبس واستحكم الوباء. ولما بلغ الأمر إلى هذا القدر، وابن هود يخاطب بالتسويف والمطل، اجتمع الناس إلى الفقيه أبي الوليد الوقشي في التكلم لابن جحاف (٢) وعندئذ اجتمع أعيان المدينة، وأرغموا ابن جحاف على مفاوضة السيد في التسليم وعقد الصلح، فأذعن وترك لهم المفاوضة، فذهب وفد منهم لمفاوضة السيد، وتم الاتفاق على أن يبعث البلنسيون رسلهم إلى ملك سرقسطة،


(١) الذخيرة لابن بسام، القسم الثالث، المخطوط لوحة ١٩ ب، والبيان المغرب ج ٣ الملحق ص ٣٠٥.
(٢) من أوراق مخطوطة من البيان المغرب عثر بها المؤلف بخزانة جامع القرويين بفاس.

<<  <  ج: ص:  >  >>