للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأحسنها الرأي الأول.... وتدل هذه المغاضبة أيا كان المراد بها، على ضيق صدر "يونس", وأنه لما تحمل أمر النبوة قام به بمشقة وعسر؛ ولذلك لم يصبر على قومه، وكان يتوعدهم بالعذاب يحل بهم، فلما أظلّهم العذاب تركهم، ولكنهم تابوا فرفع الله العذاب عنهم، وعاتب الله يونس لأنه تعجل بتركهم١.

وكان عليه ألا يتركهم إلا بإذن من الله تعالى، وألا يغضب أبدا....

يبين القرآن الكريم هذه الصفات في يونس -عليه السلام- فيقول تعالى: {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} ٢.

حيث يأمر الله محمدا -صلى الله عليه وسلم- ألا يكون كأخيه يونس في الغضب، والضجر, والعجلة، مع قومه، ويوم أن دعا ربه وهو في بطن الحوت كان مكظوما ... يقول ابن عباس ومجاهد: أي: مملوءا غما ... ويقول عطاء وأبو مالك: أي: مملوءا كربا ... يقول الماوردي: والفرق بينهما أن الغم في القلب "العقل"، والكرب في النفس "العواطف"، ولا مانع من إرادة المعنيين معا.

خرج يونس من عند قومه، وذهب إلى البحر ليفر منهم بواسطة سفينة تقله بعيدا عنهم، فوجد سفينة مملوءة، فركبها، وسارت السفينة، وولجت بركابها في البحر، فلما جاءها الموج، ثقلت بمن فيها، وتوقفت في عرض البحر، فتشاور الركاب، واتفقوا على أن يقترعوا فيما بينهم، فمن أصابته القرعة، ألقوه في البحر؛ ليتخففوا منه، فلما اقترعوا وقع السهم على نبي الله يونس، فلم ينفذوها عليه، لصلاحه وخلقه، وأعادوا القرعة مرة ثانية وثالثة, وفي كل مرة تأتي عليه، فألقوه في الماء، حيث لا مناص من ذلك.

ويجري القدر لتحقيق مراد الله تعالى، ويأتي حوت عظيم يلقمه، فيأمره الله تعالى بعدم أكل لحمه، أو تكسير عظمه، ويبتلعه الحوت، ويستقر "يونس" في بطنه حيا، فأخذ يسبح ربه، ويعبده، واتخذ من بطن الحوت مسجدا, واستغرق في الذكر


١ سورة القلم آية: ٤٨.
٢ تفسير القرطبي ج١١ ص٣٢٩.

<<  <   >  >>