للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تصوروا أن دعوة نوح لهم جدلا، لا يقصد بها الحق والصواب، وطلبوا منه التوقف عنها لكثرتها، ولعدم جدواها، وتحدّوه بأن يأتي لهم بما خوفهم به، ظنا منهم أنه كاذب، ولم يكتفوا بسبّ نوح وأتباعه، والسخرية بهم، بل كانوا يضربون نوحا حتى يسقط على الأرض جريحا فيلفّونه في لبد، ويرمونه في بيت خرب، يظنون أنه قد مات، فإذا به يلقاهم في اليوم التالي، يدعوهم إلى الله تعالى.

"يحكي ابن إسحاق عن عبد الله بن عمير الليثي أنه بلغه أن قوم نوح كانوا يبسطون نوحا فيخنقونه حتى يُغشَى عليه، فإذا أفاق قال: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، حتى تمادوا في المعصية، واشتد عليه منهم البلاء، وهو ينتظر الجيل بعد الجيل، فلا يأتي قرن إلا كان أنحس من الذي قبله، ولقد كان يأتي القرن الآخر منهم فيقول: كان هذا الشيخ مع آبائنا، وأجدادنا هكذا مجنونا"١.

شكى نوح -عليه السلام- حال قومه لربه, فعرفه سبحانه وتعالى بأنه لن يؤمن منهم أحد بعد ذلك, قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} ٢.

ويعجب العاقل حين يعلم عدد الذين آمنوا بالله، وصدقوا نوحا في دعوته خلال هذه المدة الطويلة لقلة عددهم، وقد اختلفت الأقوال في عدد المؤمنين، فالمكثر يصل بالعدد إلى ثمانين، والمقل يصل بالعدد إلى سبعة فقط، وقد أشار الله إلى قلة عدد المؤمنين، فقال سبحانه: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} ٣.

لما علم نوح -عليه السلام- بأنه لن يؤمن أحد بدعوته بعد ذلك, طلب من


١ تفسير الخازن ج٣، ص٢٢٩.
٢ سورة هود آية: ٣٦.
٣ سورة هود من الآية: ٤٠.

<<  <   >  >>