للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

القَطَّانِ، وَمَنْ تَلَقَّى عَنْهُ كَأَحْمَدَ وَابْنِ المَدِينِيِّ وَغَيرِهِمَا، فَمَنْ رُزِقَ مُطَالَعَةَ ذَلِكَ، وَفَهِمَهُ، وَفَقِهَتْ نَفْسُهُ فِيهِ، وَصَارَتْ لَهُ فِيهِ قُوَّةُ نَفْسٍ وَمَلَكَةٍ، صَلُحَ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِيهِ» (١).

ولذَا فإنَّ لقبَ «المحدِّثِ» لا يُطلَقُ إلَّا على منْ يشتغلُ بعلمِ الحديثِ روايةً ودرايةً، ويطَّلعُ على كثيرٍ منَ الرِّواياتِ وأحوالِهَا، وَقدْ أشارَ المعلِّميُّ «ت ١٣٨٦ هـ» في مقدِّمةِ كتابِهِ «الاستبصارُ في نقدِ الأخبارِ» إلى صعوبَةِ علمِ الحديثِ درايةً، لكنْ ليسَ إلى حدِّ استحالتِهِ أو تعذُّرِهِ، فقالَ: «وَأَرْجُو إِذَا يَسَّرَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِتْمَامَ هَذِهِ الرِّسَالَةِ كَمَا أُحِبُّ، أَنْ يَتَّضِحَ لِقَارِئِهَا سَبِيلُ القَومِ فِي نَقْدِ الحَدِيثِ، وَيَتَبَيَّنَ أَنَّ سُلُوكَهَا لَيسَ مِنَ الصُّعُوبَةِ بِالدَّرَجَةِ التِي يَقْطَعُ بِامْتِنَاعِهَا، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَاعِيَاً لِأُولِي الِهمَمِ إِلَى الاِسْتِعْدَادِ لِسُلُوكِهَا، فَيَكُونُ مِنْهُمْ أَئِمَّةٌ مَجْتَهِدُونَ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى» (٢).

ثانياً: الأئمَّةُ المتقدِّمونَ كانُوا يقطعونَ المفاوزَ من أجلِ جمعِ طرقِ حديثٍ واحدٍ، ويُمضونَ الأيَّامَ الطِّوالَ ويُواصلونَ الليلَ بالنَّهارِ للنَّظرِ في علَّةِ حديثٍ مَا منْ خلالِ طرقِهِ، قالَ ابنُ المدينيِّ «ت ٢٣٤ هـ»: «رُبَّمَا أَدْرَكْتُ عِلَّةَ حَدِيثٍ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً» (٣). وقالَ الخطيبُ «ت ٤٦٣ هـ»: «مِنَ الأَحَادِيثِ مَا تَخْفَى عِلَّتُهُ، فَلَا يُوقَفُ عَلَيهَا إِلَّا بَعْدَ النَّظَرِ الشَّدِيدِ، وَمُضِيِّ الزَّمَنِ البَعِيدِ» (٤). - ولنَا فيهمْ أُسوةٌ حسنةٌ - وهوَ المنهجُ الذي سارَ عليهِ الأئمَّةُ المتأخِّرونَ، وقدْ ذكرنَا عددَاً منَ المتأخِّرينَ الذينَ قامُوا بعمليَّةِ السَّبرِ اعتمادَاً على المصنَّفاتِ الحديثيَّةِ المسندَةِ معَ بُعدهِمْ عنْ عصرِ الرِّوايَةِ، والأسانيدُ التي


(١) شرح علل الترمذي ٢/ ٦٦٤.
(٢) انظر ص ٨.
(٣) الجامع لأخلاق الراوي ٢/ ٢٥٧.
(٤) المصدر ذاته.

<<  <   >  >>