وهذا هدي أصحاب رسول الله ﷺ، قال الصديق وزيد بن ثابت في جمع المصحف: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله ﷺ؟ فتضمن كلامهم حكما فقهيا وهو حكم جمع المصحف، ومنهجا وهو التوقف عما لا يعلم طلبه شرعا إلا ببينة.
ومنها قول عمر: وافقت ربي في ثلاث فقلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فأنزلت (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)[خ ٣٩٣] اه فتوقف قبل العمل حتى يستأذن ..
كذلك قول عائشة في قضاء الصلاة بعد الطهر: كان يصيبنا ذلك، فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة اه ولو كان الأصل في القربات الإذن لما توقفن عن قضاء الصلاة حتى يأتي الأمر، بل لصمن حتى يأتي النهي .. وإنما كان هذا النظر من الحرورية يفتون نساءهم بقضاء الصلاة كأنهم رأوا أن الأصل في العبادات الإذن، وهو من سنن أهل الكتاب كما قالوا لهارون وجادلهم في ما أحدثوا من عبادة العجل (قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى)[طه ٩١] فكأنهم قالوا: لا نزال على ما أحدثنا حتى يأتينا النهي عنه مسندا. فمن خرج عن أصول الصحابة وقع في أصول المبتدعة السفهاء الأحلام الحدثاء الأسنان في الدين والعلم. صان الله أهل الخير من ذلك.
وهذا معنى سائر في كل ما أنكره الأولون من الأعمال، إذ لو كان الأصل الإذن لما كان لإنكارهم معنى ولكانوا أولى بأن يُنكِرَ عليهم المنكَرُ عليه، ولما كان للفظ " البدعة " إذًا معنى. وهو معنى متفق عليه من حيث الجملة، معلوم عند أهل العلم بالضرورة (١)، بل هو فطرة، اتفق العقلاء على أن كل علم لا يخوض فيه جاهل حتى
(١) - ولا تلتفت إلى ما كان من بعض أهل ناحيتنا، استنكر لهذا الأصل وراح يشبه بالمحتملات! وقد قال ابن أبي حاتم [التفسير ١٧٤٥١] حدثنا أبي ثنا أحمد بن أبي الحواري ثنا عباس الهمذاني حدثنا أبو أحمد من أهل عكا في قول الله ﷿ (لنهدينهم سبلنا) إلى قوله (وإن الله لمع المحسنين) قال: "الذين يعملون بما يعلمون يهديهم لما لا يعلمون". قال أحمد بن أبي الحواري فحدثت به أبا سليمان الداراني فأعجبه وقال: ليس ينبغي لمن ألهم شيئا من الخير أن يعمل به حتى يسمعه في الأثر، فإذا سمعه في الأثر عمل به، وحمد الله حين وافق ما في نفسه اه وقد حكاه ابن كثير تحت الآية. والقوم ينتحلون أبا سليمان الداراني.