فمن عمي فلا يعمَ بالظن بربه ولا بنبيه، فذاك عسى أن يُبَصّر بالحق الذي اختلفوا فيه ..
لذلك فالخلاف الحاصل بين الفقهاء لا يعني أن أصله في الشرع، ولكن كل قد سعى، والمصيب من وافق حكم الله لمِا قال النبي ﷺ: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر اه [خ ٦٩١٩/ م ٤٥٨٤].
وإن تعجب فعجب قول من زعم أن في الشرع "منطقة العفو" مجال فراغ تشريعي للمجتهدين تُركت لتُملأ بما ظهر لأحدهم!! وهذه من أنكر البدع في أصول الاستدلال .. وإنما نادى بها دارس "القانون" غير عالم بالشرع، جعل شريعة أحكم الحاكمين بمنزلة القانون المحدث الذي يترك واضعوه لأنفسهم فراغا يغيرون منه ما ظهر لهم!!
وربما استظهر على ذلك بما صح أن ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته (وما كان ربك نسيا). وهذا والله العجب! دليل على أن الشرع لم يترك شيئا إلا تناوله بحكم، يُقلب الاستدلال به قلبا؟!!
إن العفو من الله تشريع مثل ما سمي "السنة التقريرية" في حق رسوله ﷺ، لم يزل العلماء يحتجون بهذا الأصل على إباحة ما عفي عنه. بل وجعل المتأخرون الأحاديث فيه من الأدلة على أن "الأصل في الأشياء الإباحة ".
والمباح في السنة من حيث منهاجُ التشريع نوعان: حلال مأذون فيه مرَغَّب، وعفو مسكوت عنه كما تقدم.
فإذا كان الشيء من أمور الناس واقعا زمن النبي ثم سكت عنه فهو عفو، حكمه الجواز ولا حرج في فعله، ولا يفتش فيه بقياس أو استنباط .. إنما القياس - أي للمتأخرين - في ما بعد التشريع من النوازل الحادثة، أما ما كان زمنَ النبي ﷺ ثم لم يتكلم فيه ولا أحد من فقهاء أصحابه فقد تبين قصد العفو عنه. وهذا كالريح الخارجة من قُبُل المرأة، هو فطرة أكثر النساء، والمقتضي للأمر بالوضوء منه زمن النبي ﷺ كان قائما، ثم عفا عنه، ومن جعله من نواقض الوضوء قياسا على الريح الخارجة من الدبر غلط.