ويقولون: هذا الواقع يكذب الرواية أن الخمر لا شفاء فيها! خلاف ما كانوا يظنون، أدركوا أخيرا أنه لا يشفي من سقم بل يخدر الداء زمنا ثم يقوم أنشط ما كان، فلا يزيد المبتلى إلا علة. فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا: إنكم أنتم الظالمون!
وكما أتاهم تأويل ما كانوا فيه يترددون من شأن شراب بول الجمل وغمس الذباب في الشراب ونحو ذلك مما كان مصدقا لما بين يديه من الكتاب .. وهو مشهور.
وكما عاينوا أن لحم الميتة سم مهلك قدرا، كما حرمه الله شرعا. وعاينوا أنه لا يضر المضطر الذي أوشك الهلاك جوعا، كما أباحه الله شرعا، قالوا: وجدنا المعدة تفرز في حال شدة الجوع عصارة هضمية تقضي على الداء وتجعله غداء. فلما كان حراما شرعا كان ضررا قدرا، ولما أبيح شرعا رفع الله منه الضرر قدرا، إذ الفطرة والشرعة من الله الواحد الأحد سبحانه.
وكما عاينوا أن نتف الإبط هو مقتضى الفطرة لا الحلق، فقالوا: إن في أصل كل شعرة منه جراثيم تموت ما أصيبت بالهواء لا تزول إلا بالنتف، ومتى حلق الشعر بقيت وأورثت خُنُوزًا ودمامل وحكة .. وأن الحلق يقوي الشعر فيشق بعد ذلك على الحالق النتف، ويظن أنه عَسِرٌ وإنما هو عسَّر على نفسه .. فلما خالف السنة ما ازداد إلا بعدا عنها وشق عليه الرجوع إليها ..
كذلك البدع لما نهى الله عنها ورسولُه لم يجعل الله فيها المصلحة الحق قدرا، وما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إلا ازداد من الله بعدا، إذ لا بركة فيها، كما لا بركة في الأرض العقيم التي لا تنتج وإن زُرِعت الدهرَ، ولا يخرج زرعها إن خرج إلا نكدا. وإنما يلاحِظ هذا في وجوه العاملين مَنْ رُزِقَ السلامة من حب البدع واقترافها (١). ومن كذب بالحق لما جاءه فسوف يأتيه تأويل ما كان يُنهى عنه من البدع! ولات حين مناص.
وتأمل هذا في عبودية البغض في الله مثلا، فإن النبي الذي حرم البدع ونفَّر منها
(١) - الموافقات المسألة الحادية عشرة من مباحث السبب من أحكام الوضع.