فاستثناء المساكن وقوله (بأمر ربها) دليل إرادة الخصوص وهو تدمير ما أمرت به. فلا تصح دعوى إرادة الخصوص في العموم إلا بقرينة في السياق، ومتى تجرد عن هذه القرائن بقي على الأصل.
لكن الحديث تأكد البيان في سياقه وشواهده على إرادة العموم المحكم وذلك من وجوه:
- الأول: لفظ "محدثات الأمور" عموم بالإضافة يشمل كل ما يحدث في الدين.
- الثاني:"كل بدعة" عموم ثان.
- الثالث: تكرار النبي ﷺ العموم في الخُطب تأكيد، والتأكيد يمنع حمل اللفظ على المجاز كما قالوا، أي يمنع أن يحمل اللفظ على غير ظاهره (١).
- الرابع: العلة، فإن لفظ "محدثة" ولفظ "بدعة" مشتقان يدلان - بدلالة الإيماء والتنبيه - على أن علة الردِّ والضلالِ الإحداثُ والابتداعُ وهي علة منصوصة. والحكم يدور مع علته وجودا وعدما، متى وجد الإحداث وجد الضلال والرد. فهذا عموم آخر بالعلة يبطل الدعوى.
- الخامس: لفظ "إن" الذي هو للتأكيد يؤيد القصد إلى العموم الظاهر، و يفيد أن دلالة الكلام على العموم مقصودة بالتأكيد. ثم هو مذكور في السياق لفظا في قوله:"فإن كلَّ محدثة بدعة" وتقديرا في قوله: "وكلَّ بدعة ضلالة" تقديره: وإن كل بدعة ضلالة. فكأنه خطاب للمتردد في دلالة العموم على الاستغراق.
- السادس: طريقة إبلاغ النبي ﷺ الخبر دليل آخر على أن العموم محكم، إذ جَعَلَه في خُطَبِه بالمجامع الحافلة كما أخبر جابر ﵁ قال: كان رسول الله ﷺ إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبَّحكم ومسَّاكم .. ويقول: أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة اه وكما في حديث أبي فراس البليغ. والخطبة إعلام بالخَطْب العظيم، أي أن إعلامهم بهذا الحكم هو من الخَطْبِ الذي
(١) - انظر صحيح البخاري كتاب العلم باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم عنه.