للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قال اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى في سورة الواقِعة: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة: ٦٥]، هذه اقتَرَنَت بها اللَّام {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} [الواقعة: ٧٠]، أمَّا (ما) هنا فلَمْ تَقتَرِن بها اللَّامُ، لكن قد تَقْتَرِن بها اللَّام قليلًا، ومنه قول الشاعِر:

وَلَوْ نُعْطَى الْخِيَارَ لمَا افْتَرَقْنَا ... وَلَكِنْ لَا خِيَارَ مَعَ اللَّيَالِي (١)

يَقول اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا}: {قَلِيلًا} هنا بمَعنَى: إلَّا عدَمًا، أو هي على ظاهِرها أنَّهم يُقاتِلون، ولكن قِتالًا قليلًا، هذا هو الأقرَب؛ لأن الأصل إِبْقاء الكلام على ظاهِره، إلَّا أن يَقوم دليلٌ على أن ظاهِره غَيرُ مُراد، فهؤلاءِ لو كانوا فينا حينما يَأتِي الأحزاب لوَجَدْتهم من جُبْنهم لا يُقاتِلون إلَّا قليلًا.

وفسَّر المُفَسِّر رَحِمَهُ اللَّهُ هذا القِلَّةَ بأنها من أَجْل الرِّياء وخَوف التَّعيير؛ يَعنِي: يُراؤُون الناس بأنهم يُقاتِلون في سبيل اللَّه تعالى، ويَخافون من تَعْيِير الناس لهم، فهم لا يُقاتِلون؛ لتكون كلِمةُ اللَّه هي العُليا، وهذا من أهَمِّ ما يَكون، أَعنِي: إخلاصَ الإنسان عِبادته للَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذا من أهَمِّ ما يَكون، ومن أشَدِّ ما يَكون عِلاجًا على النَّفْس؛ لأن الأعمال الظاهِرة كلُّ أحَدٍ يَستَطيع أن يَجعَلها على أحسَنِ ما يُرَام؛ كلُّ أحَد يَستَطيع أنه يَقوم ويُصلِّي بقِراءةٍ مُتأنِّيةٍ وبرُكوعٍ مُتأنٍّ وبسُجودٍ مُتأَنٍّ وبقِيامٍ مُتأَنٍّ وبقُعودٍ مُتأَنٍّ؛ لكن إصلاح القَلْب هو الصَّعْب؛ ولهذا كان صَلاح القَلْب مُوجِبًا لصلاح البدَن، ولا عكسَ، كما قال النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أَلَا وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّه أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ" (٢).


(١) غير منسوب، وانظره في: مغني اللبيب (ص: ٣٥٨)، وشرح التصريح (٢/ ٤٢٤)، وهمع الهوامع (٢/ ٥٧٢)، وخزانة الأدب (١٠/ ٨٢).
(٢) أخرجه البخاري: كتاب الإيمان, باب فضل من استبرأ لدينه، رقم (٥٢)، ومسلم: كتاب المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، رقم (١٥٩٩)، من حديث النعمان بن بشير -رضي اللَّه عنهما-.

<<  <   >  >>