الناس غيره، كما قاله بعض مَن قاله من الأنصار حين قسَمَ النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- غنائِمَ حُنَيْنٍ، قالوا: إن الرجُل وجَدَ قومَه، وأَراد أن يُغدِق عليهمُ المالَ، ونحن قاتَلْنا وفعَلْنا وفعَلْنا ولم يُعطِنا شيئًا؛ لكن الذي قاله شُبَّانٌ من الأنصار ليس لهم قِيمة بالنِّسبة للكِبار منهم، ومع ذلك الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خطَبَ بهم تِلكَ الخُطْبةَ العَظيمة، التي بيَّن فيها فَضْلَهم وبيَّن الحِكْمة من إعطاء هؤلاءِ القومِ دونهم، وأنه يُعطِي هؤلاءِ ليَتَألَّفهم على الإسلام، ويَقوَى إيمانهم أو يَنكَفَّ شَرُّهم، أمَّا الأنصار فليسوا بحاجة إلى ذلك، لأن الناس يَذهَبون بالشاة والبَعير وهم يَذهَبون برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وشَتَّان ما بين هذا وهذا، حتى قال لهم:"لَوْ أَنَّ النَّاسَ سلَكُوا شِعْبًا أَوْ وَادِيًا وَسَلَكَ الْأَنْصَارُ شِعْبًا أَوْ وَادِيًا، لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ"، وقال -صلى اللَّه عليه وسلم- لهم:"الْأَنْصَارُ شِعَارٌ، وَالنَّاسُ دِثَارٌ"، وقال -صلى اللَّه عليه وسلم- لهم:"لَوْلَا الهجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ"(١).
وكل هذا أَقنَعَهم، حتى جعَلوا يَبكون حتى أَخضَبوا لحِاهُم بالبُكاء -رضي اللَّه عنهم-؛ لأن هذا يُساوِي الدُّنيا كلَّها، ففَرْق عظيم بين مَن يَذهَب بالشاة والبَعير، ومَن يَذهَب برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فهذا فيه حِكْمة من اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: أن اللَّه قد يُقدِّر للإنسان ما يَكرَهه ليَكون بعد ذلك ما يُحبُّه، فمُوسى -صلى اللَّه عليه وسلم- كَرِه أن يَفِرَّ الحجَر بثَوْبه بلا شكٍّ، ولكن صار فيه حِكْمة عظيمة، وهو أن ما يَتكلَّم به بنو إسرائيلَ من الكلام والاتِّهام كلُّه ذَهَبَ.
والمُناسَبة لهذا -كما سيَأتي في الفَوائِد إن شاء اللَّه تعالى بَيان أنه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مع كونه مُبَرَّأً ممَّا أُوذِيَ فهو ذو مَنزِلة عالية عند اللَّه تعالى.
(١) أخرجه البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة الطائف، رقم (٤٣٣٠)، ومسلم: كتاب الزكاة، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام، رقم (١٠٦١)، من حديث عبد اللَّه بن زيد بن عاصم -رضي اللَّه عنه-.