للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقوله تعالى: " {على} للاستعلاء؛ وتفيد علوهم على هذا الهدى، وسيرهم عليه، كأنهم يسيرون على طريق واضح بيّن؛ فليس عندهم شك؛ تجدهم يُقبلون على الأعمال الصالحة وكأن سراجاً أمامهم يهتدون به: تجدهم مثلاً ينظرون في أسرار شريعة الله، وحِكَمها، فيعلمون منها ما يخفى على كثير من الناس؛ وتجدهم أيضاً عندما ينظرون إلى القضاء والقدر كأنما يشاهدون الأمر في مصلحتهم حتى وإن أصيبوا بما يضرهم أو يسوءهم، يرون أن ذلك من مصلحتهم؛ لأن الله قد أنار لهم الطريق؛ فهم على هدًى من ربهم وكأن الهدى مركب ينجون به من الهلاك، أو سفينة ينجون بها من الغرق؛ فهم متمكنون غاية التمكن من الهدى؛ لأنهم عليه، والربوبية هنا خاصة متضمنة للتربية الخاصة التي فيها سعادة الدنيا، والآخرة" (١).

قوله تعالى: {وأولئك هُمُ المفلحون} [البقرة: ٤]، "أي وأولئك هم الفائزون بالدرجات العالية في جنات النعيم" (٢).

قال ابن عباس: " أي الذين أدْركوا ما طلبوا، ونجَوْا من شرّ ما منه هَرَبُوا" (٣).

قال ابن كثير: " أي: في الدنيا والآخرة" (٤).

قال الثعلبي: " وهم الناجون الفائزون فازوا بالجنّة ونجوا من النار" (٥).

قال البغوي: أي: فهم الناجون والفائزون، فازوا بالجنة ونجوا من النار، ويكون الفلاح بمعنى البقاء أي باقون في النعيم المقيم (٦).

قال الطبري: " أي أولئك هم المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله تعالى ذكره بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله، من الفوز بالثواب، والخلود في الجنان، والنجاة مما أعد الله تبارك وتعالى لأعدائه من العقاب" (٧).

قال الزمخشري: " وفي تكرير أولئك تنبيه على أنهم كما ثبتت لهم الأثرة بالهدى، فهي ثابتة لهم بالفلاح فجعلت كل واحدة من الأثرتين في تمييزهم بالمثابة التي لو انفردت كفت مميزة على حيالها" (٨).

وقال ابن عثيمين: " وأعيد اسم الإشارة تأكيداً لما يفيده اسم الإشارة الأول من علوّ المرتبة، والعناية التامة بهم كأنهم حضروا بين يدي المتكلم؛ وفيه الفصل بين الغاية، والوسيلة؛ فالغاية: الفلاح؛ ووسيلته: ما سبق، و "الفلاح" هو الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب؛ فهي كلمة جامعة لانتفاء جميع الشرور، وحصول جميع الخير" (٩).

والفلاح هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب، وحصر الفلاح فيهم؛ لأنه لا سبيل إلى الفلاح إلا بسلوك سبيلهم، وما عدا تلك السبل، فهي سبل الشقاء والهلاك والخسار التي تفضي بسالكها إلى الهلاك (١٠).

وأصل الفلاح: القطع والشق ومنه سمي الزراع فلاحا لأنه يشق الأرض، وقيل لأهل الجنة مفلحون لفوزهم ببقاء الأبد، وفلاح الدهر: بقاؤه، يقال: لا أفعل ذلك فلاح الدهر (١١).

واختلف في تفسير (الفلاح) في قوله تعالى: {وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: ٥]، على ثلاثة أقوال (١٢):

أحدها: أن (الفلاح): هو الظفر بالبغية وإدراك الأمل، ومنه قول لبيد (١٣):

اعْقِلِي, إِنْ كُنْتِ لَمَّا تَعْقِلِي ... وَلَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ عَقَلْ


(١) تفسير ابن عثيمين: ١/ ٣١.
(٢) صفوة التفاسير: ١/ ٢٦.
(٣) أخرجه الطبري (٢٩٤): ص ١/ ٢٥٠، وابن أبي حاتم (٨٨): ص ١/ ٣٩.
(٤) صفوة التفاسير: ١/ ١٧١.
(٥) تفسير الثعلبي: ١/ ١٤٩.
(٦) تفسير البغوي: ١/ ٦٣.
(٧) تفسير الطبري: ١/ ٢٥٠.
(٨) الكشاف: ١/ ٤٥.
(٩) تفسير الطبري: ١/ ٣٢.
(١٠) تفسير السعدي: ١/ ٤٠.
(١١) ينظر: لسان العرب: : مادة (ف ل ح).
(١٢) أنظر: تفسير الطبري: ١/ ٢٥٠، والمحرر الوجي: ١/ ٨٦.
(١٣) ديوانه ٢: ١٢، والخطاب في البيت لصاحبته.

<<  <  ج: ص:  >  >>