للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يضل إلا من سبق له من الله الشقاءُ في الذكر الأول" (١). قال ابن حجر: "وحاصله أنها خاصة بمن قدر الله تعالى أنه لا يؤمن" (٢).

واختار القول الأخير القرطبي (٣)، وإليه مال ابن عطية، فقد حكاه أولًا ثم قال: "والقول الأول مما حكيناه هو المعتمد عليه، وكل من عين أحدًا فإنما مثل بمن كشف الغيب -بموته على الكفر- أنه في ضمن الآية " (٤)، وهذا يعني أن الآية هي عامة، ومعناها الخصوص فيمن سبقت عليه كلمة العذاب، وسبق في علم الله أنه يموت على كفره، أراد الله أن يعلم الناس أن فيهم من هذا حاله دون أن يعين أحداً.

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: ٦]، " أي: إن الذين جحدوا بآيات الله وكذبوا رسالة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم" (٥).

قال ابن عباس: " أي بما أنزل إليك، وإن قالوا إنا قد آمنا بما جاءنا قبلك" (٦).

وأصْلُ (الكفر) عند العرب: تَغطيةُ الشيء، ولذلك سمَّوا الليل " كافرًا "، لتغطية ظُلمته ما لبِستْه، كما قال الشاعر (٧):

فَتَذَكَّرَا ثَقَلا رًثِيدًا، بَعْدَ مَا ... أَلْقَتْ ذُكاءُ يَمِينَهَا في كافِرِ

وقال لبيدُ بن ربيعة (٨):

يَعْلُو طَريقةَ مَتْنِهَا مُتَوَاتِرَا ... فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومُ غَمَامُهَا

يعني غَطَّاها، فكذلك الذين جحدوا النبوّة من الأحبار من اليهود غَطَّوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكَتَمُوه الناسَ - مع علمهم بنبوّته، ووُجُودِهم صِفَتَه في كُتُبهم - فقال الله جل ثناؤه فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} [سورة البقرة: ١٥٩]، وهم الذين أنزل الله عز وجل فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} (٩).

قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: ٦]، "أي: سواءٌ أَحذرتهم يا محمد بن عذاب الله وخوفتهم منه أم لم تحذرهم، لا يصدقون بما جئتهم به" (١٠).

قال ابن عباس: " أي: أنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق فقد كفروا بما جاءك، وبما عندهم مما جاءهم به غيرك، فكيف يسمعون منك إنذارا وتحذيرا، وقد كفروا بما عندهم من علمك" (١١).


(١) أخرجه الطبري (٢٩٧): ص ١/ ٢٥٢، وهو عند ابن كثير "١/ ٤٥" والسيوطي "١/ ٢٨ - ٢٩" والشوكاني "١/ ٢٨" ونسباه إلى ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي ولم أجده في "تفسير ابن أبي حاتم"، هذا، وقد تصرف ابن حجر في النقل بالاختصار.
(٢) العجاب في بيان الأسباب: ١/ ٢٣٢.
(٣) انظر: تفسير القرطبي: ١/ ١٨٤.
(٤) المحرر الوجيز: ١/ ٨٧. قال ابن عطية: واختلف فيمن نزلت هذه الآية بعد الاتفاق على أنها غير عامة لوجود الكفار قد أسلموا بعدها.
- فقال قوم هي فيمن سبق في علم الله أنه لا يؤمن أراد الله تعالى أن يعلم أن في الناس من هذه حاله دون أن يعين أحد.
- وقال ابن عباس نزلت هذه الآية في حيي بن أخطب وأبي ياسر وابن الأشرف ونظرائهم.
- وقال الربيع بن أنس نزلت في قادة الأحزاب وهم أهل القليب ببدر قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه هكذا حكي هذا القول وهو خطأ لأن قادة الأحزاب قد أسلم كثير منهم وإنما ترتيب الآية في أصحاب القليب والقول الأول مما حكيناه هو المعتمد عليه وكل من عين أحدا فإنما مثل بمن كشف الغيب بموته على الكفر أنه في ضمن الآية. (المحرر الوجيز: ١/ ٨٧).
(٥) صفوة التفاسير: ١/ ٢٧.
(٦) أخرجه ابن أبي حاتم (٩٢): ص ١/ ٤٠.
(٧) الشعر لثعلبة بن صعير المازني، شرح المفضليات: ٢٥٧. والضمير في قوله " فتذكرا " للنعامة والظليم. والثقل: بيض النعام المصون، والعرب تقول لكل شيء نفيس خطير مصون: ثقل. ورثد المتاع وغيره فهو مرثود ورثيد: وضع بعضه فوق بعض ونضده. وعنى بيض النعام، والنعام تنضده وتسويه بعضه إلى بعض. وذكاء: هي الشمس.
(٨) انظر: شرح المعلقات السبع للزوزني: ١٠٠، ويروى " ظلامها ". يعني البقرة الوحشية، قد ولجت كناسها في أصل شجرة، والرمل يتساقط على ظهرها.
(٩) تفسير الطبري: ١/ ٢٥٥.
(١٠) صفوة التفاسير: ١/ ٢٧.
(١١) أخرجه ابن أبي حاتم (٩٢): ص ١/ ٤٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>