للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أحدها: أن القلب مثل الكف، فإذا أذنب العبْدُ ذنباً ضُمَّ منه كالإصبع، فإذا أذنب ثانياً ضم منه كالإصبع الثانية، حتى يضمَّ جميعه ثم يطبع عليه بطابع. وهو قول مجاهد (١).

والثاني: أنها سمة تكون علامة فيهم، تعرفهم الملائكة بها من بين المؤمنين.

والثالث: أنه إخبار من الله تعالى عن كفرهم وإعراضهم عن سماع ما دعوا إليه من الحق، تشبيهاً بما قد انسدَّ وختم عليه، فلا يدخله خير.

والرابع: أنها شهادة من الله تعالى على قلوبهم، بأنها لا تعي الذكر ولا تقبل الحقَّ، وعلى أسماعهم بأنها لا تصغي إليه، والغشاوة: تعاميهم عن الحق.

والصحيح هو القول الأول، وذلك لما صحّ بنظيره عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم، أنه قال: " إنّ المؤمنَ إذا أذنب ذنبًا كانت نُكْتهٌ سوداءُ في قلبه، فإن تاب وَنزع واستغفر، صَقَلت قلبه، فإن زاد زادت حتى تُغْلق قلبه، فذلك " الرَّانُ " الذي قال الله جل ثناؤه: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [سورة المطففين: ١٤] " (٢).

فيتبيّن لنا من الحديث: " أنّ الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلفتها أتاها حينئذ الخَتْم من قبل الله عز وجلّ والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مَسْلك، ولا للكفر منها مَخْلَص، فذلك هو الطَّبع. والختم الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ}، نظيرُ الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف، التي لا يوصَل إلى ما فيها إلا بفضِّ ذلك عنها ثم حلّها. فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وَصَف الله أنه ختم على قلوبهم، إلا بعد فضِّه خَاتمَه وحلِّه رباطَه عنها" (٣).

وأصلُ الختم: الطَّبْع، والخاتَم هو الطَّابع. يقال منه: ختمتُ الكتابَ، إذا طبَعْتَه" (٤).

قال أبو حيان: " وذهب بعض المتأولين من القدرية إلى أن معنى {ختم الله على قلوبهم}: وسمها سمة تدل على أن فيها الكفر، لتعرفهم الملائكة بتلك السمة، وتفرق بينهم وبين المؤمنين الذين في قلوبهم الشرع، قال: والختم والطبع واحد، وهما سمة وعلامة في قلب المطبوع لى قلبه (٥)، وهذا باطل, لأن الختم في اللغة ليس هو الإعلام، ولا يقال: ختمت على الشيء بمعنى: أعلمت عليه ومن حمل الختم على الإعلام فقد تشهى على أهل اللغة، وجر كلامهم إلى موافقة عقيدته" (٦).

وقد خص القلب بالختم لأنه محل الفهم والعلم، كما أنه ذكر الاعضاء (السمع والبصر القلب)، لأنها طرق العلم، فالقلب محل العلم وطريقه السماع أو الرؤية.

قوله تعالى: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: ٧]، " أي: وختم على سمعهم" (٧).

قال الثعلبي: " فلا يسمعون الحق ولا ينتفعون به" (٨).

قال ابن عثيمين: " والختم على الأذن: أن لا تسمع خيراً تنتفع به" (٩).

قال الواحدي: " وحد السمع، لأنه مصدر، والمصادر لا تثنى ولا تجمع، لأن المصدر ينبئ عن الفعل، فهو بمنزلة الفعل، والفعل لا يثنى ولا يجمع (١٠)، وقال ابن الأنباري: أراد: وعلى مواضع سمعهم، فحذف


(١) أنظر: تفسير الطبري (٣٠١): ص ١/ ٢٥٨. ولفظه: " القلبُ مثلُ الكفّ، فإذا أذنب ذنبًا قبض أصبعًا حتى يقبض أصابعه كلها - وكان أصحابنا يُرون أنه الرَّان".
أي: إنّ الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلفتها أتاها حينئذ الخَتْم من قبل الله عز وجلّ والطبع، فلا يكون للإيمان إليها مَسْلك، ولا للكفر منها مَخْلَص، فذلك هو الطَّبع، والختم الذي ذكره الله تبارك وتعالى في قوله: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ)، نظيرُ الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف، التي لا يوصَل إلى ما فيها إلا بفضِّ ذلك عنها ثم حلّها. فكذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وَصَف الله أنه ختم على قلوبهم، إلا بعد فضِّه خَاتمَه وحلِّه رباطَه عنها.
(٢) رواه أحمد في المسند ٧٩٣٩ (٢: ٢٩٧ حلبي)، ورواه الحاكم ٢: ٥١٧، ورواه الترمذي ٤: ٢١٠، وابن ماجه ٢: ٢٩١.
(٣) تفسير الطبري: ١/ ٢٦ - ٢٦١.
(٤) ينظر: تفسير الطبري: ١/ ٢٦٥، والقول لحجاج ساقه ساقه ابن كثير في تفسيره ١: ٨٥، والشوكاني ١: ٢٨.
(٥) ذكره أبو علي الفارسي في "الحجة" عن قوم من المتأولين، ١/ ٣٠١.
(٦) التفسير البسيط: ٢/ ١١٤.
(٧) تفسير ابن عثيمين: ١/ ٣٧.
(٨) تفسير الثعلبي: ١/ ١٥٠.
(٩) تفسير ابن عثيمين: ١/ ٣٧.
(١٠) انظر: "معاني القرآن" للزجاج ١/ ٤٧، "تهذيب اللغة" (سمع) ٢/ ١٧٥٦، والثعلبي ١/ ٤٨/ب، "تفسير أبي الليث" ١/ ٩٣، "زاد المسير" ١/ ٢٨، والقرطبي ١/ ١٦٥. وقيل: وحد السمع، لأن المسموع واحد وهو الصوت، وقرئ شاذا {وعلى أسماعهم}. انظر. "الفتوحات الإلهية" ١/ ١٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>