للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والثاني: وقيل: إنه مأخوذ من نافقاء، والنافقاء موضع يرقِّقه اليربوع من جحره، فإذا أتى من قِبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق، أي: خرج، ومنه اشتقاق النفاق؛ لأنّ صاحبه يكتم خلافَ ما يُظهر، فكأنَّ الإيمان يخرج منه، أو يخرج هو من الإيمان في خفاء.

ويمكن أنَّ الأصل في الباب واحد، وهو الخروج، والنفق المسلك النافذ الذي يمكن الخروج منه (١)، قال ابن رجب: "والذي فسّره به أهل العلم المعتبرون أنّ النفاق في اللغة هو من جنس الخداع والمكر، وإظهار الخير وإبطان خلافه" (٢)، قال تعالى: {إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} {الأنعام ٣٥].

والنفاق في الاصطلاح الشرعي: هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر وهو بهذا المعنى لفظ إسلامي لم تكن العرب تعرفه قبل الإسلام. ولكن الصلة قائمة بين المعنيين اللغوي والاصطلاحي، فالمنافق هو الذي خرج من الإيمان باطنا بعد دخوله فيه ظاهراً، وقيد النفاق بأنه نفاق من الإيمان، ومن الناس من يسمي من خرج عن طاعة الملك نافقاً عليه، لكن النفاق الذي في القرآن هو النفاق على الرسول صلى الله عليه وسلم، فخطاب الله ورسوله للناس بهذه الأسماء كخطاب الناس لغيرها، وهو خطاب مقيِّد خاص لمطلق يحتمل أنواعا (٣).

ويعرف ابن كثير النفاق قائلا: "النفاق: هو إظهار الخير، وإسرار الشرّ، وهو أنواع: اعتقاديٌّ، وهو الذي يخلّد صاحبه في النار، وعمليٌّ وهو أكبر من الذنوب، قال ابن جريج: المنافق يخالف قوله فعله، وسرّه علانيته، ومدخله مخرجه، ومشهده مغيبه" (٤).

وعن حذيفة قال: المنافقون الذين فيكم اليوم شر من المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فقلنا يا أبا عبد الله وكيف ذلك؟ قال: إن أولائك كانوا يسرون نفاقهم وإن هؤلاء يعلنون (٥)، وسئل حذيفة عن النفاق فقال: " أن تتكلم باللسان ولا تعمل به" (٦).

والنفاق يطلق على النفاق الأكبر؛ الذي هو إضمار الكفر، وعلى النفاق الأصغر؛ الذي هو اختلاف السر والعلانية في الواجبات، وفي المحرمات ومثله أن النفاق الأكبر هو اختلاف السر والعلانية في الكفريات والشركيات (٧)، وقد أطلق النفاق على إبطان الكفر وإبطان المعصية (٨).

والنفاق على دروب؛ نفاق كفر ونفاق قلب ولسان وأفعال وما هو دون ذلك (٩)، ورُوِي عن الحسن البصري وقتادة رضي الله عنهما: أن صاحب الكبيرة منافق (١٠)، وروى الترمذي عن الحسن البصري شيئاً من هذا أنه قال: النفاق نفاقان؛ نفاق عمل ونفاق التكذيب (١١)، وإن النفاق قسمان: قسماً لمن يُظهر الكفر ويبطن الإيمان، وقسم لمن يظهر غير ما يسر فيما سوى الدين وهو بذلك كافراً، وقد قيل لابن عمر: "إنا ندخل على سلطاننا فنقول لهم خلاف ما نتكلم إذا خرجنا من عندهم قال كنا نعدها نفاقا" (١٢).

وعند ابن القيم: "النفاق نفاقان؛ نفاق اعتقاد ونفاق عمل" (١٣)، و"النفاق نوعان: أكبر وأصغر" (١٤):

أولاً: النفاق الأكبر:


(١) مقاييس اللغة لابن فارس (٥/ ٤٥٥)، مادة: (نفق).
(٢) جامع العلوم والحكم (٢/ ٤٨١).
(٣) كتاب الإيمان لابن تيمية رحمه الله المجلد السابع (١٣٩/ ٦٤٥)
(٤) تفسير ابن كثير، ١/ ٤٨ عند تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِالله وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: ٨]، وانظر: تفسير ابن جرير الطبري، ١/ ٢٦٨ - ٢٧٢.
(٥) البخاري في كتاب الفتن /٦٥٨٠.
(٦) الفريابي: في كتابه التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع ١/ ١٥٦.
(٧) هامش بن تيمية في الفتاوى ١١/ ١٤٠
(٨) الفتاوى ١١/ ١٤١
(٩) ابن منده كتاب الإيمان ٢/ ٦٠٣
(١٠) الملل ٣٣/ ١٢٨
(١١) سنن الترمذي ٥/ ١٩
(١٢) صحيح البخاري: (٦٧٥٦). وسنن ابن ماجة (٣٩٧٥)، ومسند احمد: ٥٧٩٥.
(١٣) فقه الصلاة ابن القيم ١/ ٧٨.
(١٤) المدارج ابن القيم ١/ ٣٤٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>