للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وعنه كذلك: " {لا يُبْصِرُونَ}: أي لا يبصرون الحق يقولون" (١).

وفي قوله: {وَتَرَكَهُمْ في ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} [البقرة: ١٧]، قولان (٢):

أحدهما: معناه لم يأتهم بضياء يبصرون به.

والثاني: أنه لم يخرجهم منه، كما يقال تركته في الدار، إذا لم تَخرجْهُ منها، وكأنَّ ما حصلوا فيه من الظلمة بعد الضياء أسوأ حالاً، لأن من طُفِئَت عنه النار حتى صار في ظلمة، فهو أقل بصراً ممن لم يزل في الظلمة، وهذا مَثَل ضربه الله تعالى للمنافقين.

وفيما كانوا فيه من الضياء، وجعلوا فيه من الظلمة قولان (٣):

أحدهما: أن ضياءهم دخولهم في الإسلام بعد كفرهم، والظلمة خروجهم منه بنفاقهم. روي نحوه عن ابن مسعود (٤)، والضحاك (٥).

والثاني: أن الضياء يعود للمنافقين بالدخول في جملة المسلمين، والظلمة زوالُهُ عنهم في الآخرة، وهذا قول ابنِ عباسٍ (٦) وقتادةَ (٧) وروي عن الحسن (٨) مثل لك.

وقوله تعالى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ}: إذ جمعها لتضمنها ظلمات عديدة (٩):

١ - ظلمة الليل؛ لأن استيقاد النار للإضاءة لا يكون إلا في الليل؛ لأنك إذا استوقدت ناراً بالنهار فإنها لا تضيء.

٢ - ظلمة الجو إذا كان غائماً.

٣ - الظلمة التي تحدث بعد فقد النور؛ فإنها تكون أشد من الظلمة الدائمة؛ و (لَا يُبْصِرُونَ) تأكيد من حيث المعنى لقوله تعالى: (فِي ظُلُمَاتٍ) دال على شدة الظلمة (١٠).

قال ابن كثير: ضرب الله للمنافقين هذا المثل، "فشبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إِلى العمى، بمن استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها، وتأنس بها وأبصر ما عن يمينه وشماله، فبينا هو كذلك إِذْ طفئت ناره، وصار في ظلام شديد، لا يبصر ولا يهتدي، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى، واستحبابهم الغيَّ على الرشد، وفي هذا المثل دلالةً على أنهم آمنوا ثم كفروا" (١١)، ولذلك ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات الشك والكفر والنفاق لا يهتدون إِلى سبيل خير، ولا يعرفون طريق النجاة (١٢).

الفوائد:

١ من فوائد الآية: بلاغة القرآن، حيث يضرب للمعقولات أمثالاً محسوسات؛ لأن الشيء المحسوس أقرب إلى الفهم من الشيء المعقول؛ لكن من بلاغة القرآن أن الله تعالى يضرب الأمثال المحسوسة للمعاني المعقولة حتى يدركها الإنسان جيداً، كما قال تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون} [العنكبوت: ٤٣].


(١) أخرجه ابن أبي حاتم (١٧١): ص ١/ ٥٢.
(٢) أنظر: النكت والعيون: ١/ ٨٠.
(٣) أنظر: النكت والعيون: ١/ ٨٠.
(٤) أنظر: تفسير الطبري (٣٨٨): ص ١/ ٣٢٢.
(٥) أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (١٦٩): ص ١/ ٥٢، ونحوه في تفسير الطبري (٣٩٢): ص ١/ ٣٢٣.
(٦) أنظر: تفسير الطبري (٣٧٨): ص ١/ ٣٢١.
(٧) أنظر: تفسير الطبري (٣٩١): ص ١/ ٣٢٣.
(٨) أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (١٧٠): ص ١/ ٥٢.
(٩) ينظر: تفسير ابن عثيمين: ١/ ٥٦.
(١٠) ينظر: تفسير ابن عثيمين: ١/ ٥٦.
(١١) تفسير ابن كثير: ١/ ١٨٧.
(١٢) أنظر: صفوة التفاسير: ١/ ٣١.

<<  <  ج: ص:  >  >>