للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قوله تعالى: {عُمْيٌ} [البقرة: ١٨]، "أي: كالعمي لا يبصرون الهدى ولا يتبعون سبيله" (١).

قال ابن عباس: "لا يبصرونه" (٢). أي الهدى. وروي نحوه عن السدي (٣)، وقتادة" (٤).

والعمى: ذهاب البصر، وقد عمي فهو أعمى، وقوم عمي، وأعماه الله، وتعامى الرجل: أرى ذلك من نفسه. وعمي عليه الأمر إذا التبس، ومنه قوله تعالى: {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ} [القصص: ٦٦] (٥).

وليس الغرض مما ذكرناه نفي الإدراكات عن حواسهم جملة، وإنما الغرض نفيها من جهة ما، تقول: فلان أصم عن الخنا، كما قالوا (٦):

أصم عما ساءه سميع

أي: لا يسمع ما ساءه مع كونه سميعا، يضرب مثلا للرجل يتغافل عما يكره.

وقال آخر (٧):

وَعَوْرَاءُ اللِّئَامِ صَمَمْتُ عَنْهَا ... وَإِنِّي لَوْ أَشَاءُ بِهَا سَمِيعُ

وقال مسكين الدارمي (٨):

أَعْمَى إِذَا مَا جَارَتِي خَرَجَتْ ... حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي السِّتْرُ

وَأَصَمُّ عَمَّا كَانَ بَيْنَهُمَا ... سَمْعِي وَمَا بِالسَّمْعِ مِنْ وَقْرِ

فوصف نفسه لتركه النظر والاستماع بالعمى والصمم.

قوله تعالى: {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة: ١٨]، "أي: لا يرجعون عما هم فيه من الغي والضلال" (٩).

قال الثعلبي: أي: " عن الضلالة والكفر الى الهداية والإيمان" (١٠).

قال ابن عثيمين: " الفاء هذه عاطفة، لكنها تفيد السببية، أي: بسبب هذه الأوصاف الثلاثة لا يرجعون عن غيِّهم؛ فلا ينتفعون بسماع الحق، ولا بمشاهدته، ولا ينطقون به" (١١).

وتعددت عبارات أهل التفسير في قوله تعالى: {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة: ١٨] على وجوه:

أحدها: معناه: " لا يرجعون إلى هدى" قاله ابن عباس (١٢). وكذلك فسره الربيع بن أنس (١٣)، والسدي (١٤).

والثاني: معناه: " أي لا يتوبون ولا يذكرون" (١٥).

قال ابن كثير: " أي لا يرجعون الى الهدى والاسلام (١٦)، لأنهم تركوا الحق بعد أن عرفوه، فلا يرجعون، بخلاف من ترك الحق عن جهل وضلال كالنصارى ونحوهم، فإنه لا يعقل، وهو أقرب رجوعاً منهم (١٧).


(١) صفوة التفاسير: ١/ ٣١.
(٢) أخرجه ابن أبي حاتم (١٧٢): ص ١/ ٥٢.
(٣) أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (١٧٣): ص ١/ ٥٢.
(٤) أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (١٧٤)، و (١٧٦): ص ١/ ٥٢. ولفظه: " عمي عنه [أي الحق]، فهم لا يبصرونه".
(٥) انظر: تفسير القرطبي: ١/ ٢١٤.
(٦) انظر: مجمع الأمثال، أبو هلال العسكري: ٧٦.
(٧) حماسة البحترى: ١٧٢. (وعوراء الكلام)، وكانت في المخطوطة: و (عوراء اللام)، وكأن الصواب ما في الحماسة. و (العوراء)، الكلمة القبيحة، أو التي تهوى جهلا في غير عقل ولا رشد.
(٨) أمالي المرتضى ١: ٤٣: ٤٤ ثم ٤٧٤، من قصيدة رواها وشرحها، وخزانة الأدب ١: ٤٦٨، وصواب رواية البيت الأول: (جارتى الخدر)، لأن قبله: ما ضر جارى إذ أجاوره أن لا يكون لبيته ستر، ورواية الشطر الثاني: (سمعى، وما بى غيره وقر)، بغير إقواء.
(٩) صفوة التفاسير: ١/ ٣١.
(١٠) تفسير الثعلبي: ١/ ١٦١.
(١١) تفسير الثعلبي: ١/ ١٦١.
(١٢) أخرجه ابن أبي حاتم (١٧٧): ص ١/ ٥٣ ..
(١٣) أنظر: تفسير ابن أبي حاتم: ص ١/ ٥٣.
(١٤) أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (١٧٨): ص ١/ ٥٣. ولفظه: " فهم لا يرجعون إلى الإسلام".
(١٥) أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (١٧٩): ص ١/ ٥٣.
(١٦) ينظر تفسير ابن كثير: ١/ ١٨٩.
(١٧) تفسير السعدي: ١/ ٤٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>