للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يقارب البرق -من شدة لمعانه- أن يسلب أبصارهم، ومع ذلك فكلَّما أضاء لهم مشَوْا في ضوئه، وإذا ذهب أظلم الطريق عليهم فيقفون في أماكنهم. ولولا إمهال الله لهم لسلب سمعهم وأبصارهم، وهو قادر على ذلك في كل وقتٍ، إنه على كل شيء قدير.

قوله تعالى: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: ٢٠]، "أي يقارب البرقُ لشدته وقوته وكثرة لمعانه أن يذهب بأبصارهم فيأخذها بسرعة" (١).

قال ابن كثير: " أي: لشدته وقوته في نفسه، وضعف بصائرهم، وعدم ثباتها للإيمان" (٢).

وقال ابن عطية: "كاد حجج القرآن وبراهينه وآياته الساطعة تبهرهم" (٣).

قال ابن عباس: " يكاد الإيمان يدخل في قلوبهم" (٤).

وعنه أيضا: ": "يكاد مُحْكَمُ القرآن يدل على عورات المنافقين" (٥).

و(الخطف): الأخذ بسرعة، ومنه سمي الطير خطافا لسرعته، فمن جعل القرآن مثلا للتخويف فالمعنى أن خوفهم مما ينزل بهم يكاد يذهب أبصارهم. ومن جعله مثلا للبيان الذي في القرآن فالمعنى أنهم جاءهم من البيان ما بهرهم (٦).

وقوله تعالى: {يَخْطَفُ} [البقرة: ٢٠]، فيه وجهان من القراءة (٧):

أحدهما: {يخْطَف}، بفتح الطاء، قرأ بها علي بن الحسين ويحيى بن وثاب والحسن، وهي اللغة الجيدة.

والثاني: {يخْطِف} بكسر الطاء، قرأ بها يونس، قال الأخفش: " وهي قليلة رديئة لا تكاد تعرف" (٨).

قال أبو علي: "حدثنا أحمد بن موسى: قال: اتفقوا على يَخْطَفُ [البقرة: ٢٠]، أنّ طاءه مفتوحة" (٩).

قوله تعالى: {كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْا فِيهِ} [البقرة: ٢٠]، "أي كلما أنار لهم البرق الطريق مشوا في ضوئه" (١٠).

قال الراغب: كلما" رأوا لامعاً لهم إما راشدا تدركه بصائرهم وإما رفداً ينفعهم اهتزوا له، فمضوا بنوره" (١١).

قال ابن كثير: " أي كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا به واتبعوه" (١٢).

قال الواحدي: كلما" كثرت الغنائم، وأصابوا الخير، رضوا به" (١٣).

قال ابن عباس: "إذا قرئ عليهم شيء من القرآن مما يحبون صدقوا" (١٤).

وعنه أيضا: " كلما أصابَ المنافقون من الإسلام عِزًّا اطمأنوا" (١٥).

وروي عن ابن مسعود: " فإذا كثرت أموالهم، ووُلد لهم الغلمان، وأصابوا غنيمةً أو فتحًا، مشوْا فيه، وقالوا: إن دين محمد صلى الله عليه وسلم دينُ صدق. فاستقاموا عليه" (١٦).

وقال قتادة: هو المنافق إذا كثر ماله وأصاب رخاء وعافية قال للمسلمين: أنا معكم وعلى دينكم، وإذا أصابته النوائب قام متحيرا؛ لأنه لا يحتسب أجرها" (١٧).

قال الواحدي: " كأصحاب الصيب إذا أضاء لهم البرق فأبصروا الطريق مشوا، فإذا عادت الظلمة وقفوا متحيرين" (١٨).

وقرأ ابن أبي عبلة: {كلما ضاء}، بغير همز، وهي لغة (١٩)، وفي مصحف أُبيّ: {مرّوا فيه}، وفي مصحف ابن مسعود: {مضوا فيه} (٢٠).

قوله تعالى: {وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة: ٢٠]، "أي وإذا اختفى البرق وفتر لمعانه وقفوا عن السير وثبتوا في مكانهم" (٢١).

قال الراغب: "ثم بين أنه إن اعترض لهم شبهة أو عن لهم مصيبة تحيروا، فوقفوا" (٢٢).

قال ابن كثير: " وتارة تعْرِض لهم الشكوك، أظلمت قلوبَهم، فوقفوا حائرين" (٢٣).

قال ابن عباس: "وإذا سمعوا شيئاً من شرائع النبي صلى الله عليه وسلم مما يكرهون وقفوا عنه" (٢٤).

وعنه أيضا: " وإن أصابَ الإسلام نكبةٌ قاموا ليرجعوا إلى الكفر" (٢٥).

قال الواحدي: " {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِم}: الغنيمة وكانت بدلها الهزيمة، اعتلوا وقعدوا عن نصرة الرسول" (٢٦).

قال ابن عطية: " وقامُوا معناه ثبتوا، لأنهم كانوا قياما، ومنه قول الأعرابي: «وقد أقام الدهر صعري بعد أن أقمت صعره» يريد أثبت الدهر" (٢٧).

وقرأ يزيد بن قطيب والضحاك: {وإذا أظلم}، بضم الهمزة وكسر اللام، مبنياً للمفعول (٢٨).

قال الراغب: "والآية تأولت على وجهين:

أحدهما: أنه شبه حال المتحرين الذين اشتروا الضلالة بالهدى بمن حصل في ليلة مطيرة ومظلمة راعدة بارقة يخاف من أهوالها وصاعقتها ويسد أذنه خوفاً من أن يصعق ويكون هذا في شغل الكلام بالمشبه به ووصفه بما يعظم من غير أن يكون في تفاصيل صفة المشبه به ما يرجع إلى المشبه طريقة العرب، على ذلك قول لبيد (٢٩):

أَفَتِلْكَ أَمْ وَحْشِيَّةٌ مَسْبُوعَةٌ ... خَذَلَتْ وَهَادِيَةُ الصِّوَارِ قِوَامُهَا


(١) صفوة التفاسير: ١/ ٣١.
(٢) تفسير ابن كثير: ١/ ١٩٠.
(٣) المحرر الوجيز: ١/ ١٠٤.
(٤) نقلا عن التفسير البسيط: ٢/ ٢١٢، ولم أجد هذِه الرواية عن ابن عباس، وفي "الطبري" عن الضحاك عن ابن عباس. قال: يلتمع أبصارهم ولما يفعل ١/ ١٥٨، "وتفسير ابن أبي حاتم" ١/ ٥٧، الدر" ١/ ٧٣، وأخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين "تفسير ابن أبي حاتم" ١/ ٥٧.
(٥) أخرجه الطبري في تفسيره (٤٥٤): ص ١/ ٣٤٩.
(٦) انظر: تفسير القرطبي: ١/ ٢٢٢.
(٧) انظر: السبعة في القراءات: ١٤٨، والحجة للقراء السبعة: ١/ ٣٩٠، وتفسير القرطبي: ١/ ٢٢٣.
(٨) معاني القرآن: ١/ ٥٤.
(٩) الحجة للقراء السبعة: ١/ ٣٩٠. وقد ذكر: في (يخطف) ستة أوجه موافقة للخط. أنظر: معاني القرآن للأخفش: ١/ ٥٤ - ٥٥، وتفسير القرطبي: ١/ ٢٢٢.
(١٠) صفوة التفاسير: ١/ ٣١.
(١١) تفسير الراغب الأصفهاني: ١/ ١٠٩.
(١٢) تفسير ابن كثير: ١/ ١٩٠.
(١٣) التفسير البسيط: ٢/ ٢١٤. وذكر نحوه "الطبري"، إلا أنه قال: (جعل البرق لإيمانهم مثلا، وإنما أراد بذلك أنهم كلما أضاء لهم الإيمان، وإضاءته لهم: أن يروا ما يعجبهم في عاجل الدنيا .... )، "تفسير الطبري" ١/ ١٥٨، وانظر: "تفسير الخازن" ١/ ٧١، ٧٢، "البحر" ١/ ٩١.
(١٤) ذكره ابن الجوزي عن ابن عباس والسدي، "زاد المسير" ١/ ٤٦، وأبو حيان في "البحر" ١/ ٩١، وذكر ابن عطية عن ابن عباس نحوه ١/ ١٩٥، وكذا "القرطبي" ١/ ١٩٣.
(١٥) أخرجه الطبري (٤٥٤): ص ١/ ٣٤٧.
(١٦) أخرجه الطبري (٤٥٢): ص ١/ ٣٤٦.
(١٧) ذكره الثعلبي في "تفسيره" ١/ ٥٦ أ، وأخرجه "الطبري" في "تفسيره" ١/ ١٥٥، وذكره السيوطي في "الدر" وعزاه إلى عبد بن حميد وابن جرير ١/ ٧٢، وقد ورد نحوه عن ابن عباس. انظر: "تفسير الطبري" ١/ ١٥٤، و"تفسير ابن أبي حاتم" ١/ ٥٩، "الدر" ١/ ٧٢.
(١٨) التفسير البسيط: ٢/ ٢١٣.
(١٩) أنظر: المحرر الوجيز: ١/ ١٠٤، والبحر المحيط: ١/ ٧١.
(٢٠) أنظر: المحرر الوجيز: ١/ ١٠٤، والبحر المحيط: ١/ ٧١.
(٢١) صفوة التفاسير: ١/ ٣١.
(٢٢) تفسير الراغب الأصفهاني: ١/ ١٠٩.
(٢٣) تفسير ابن كثير: ١/ ١٩٠.
(٢٤) ذكره ابن الجوزي عن ابن عباس والسدي، "زاد المسير" ١/ ٤٦، وأبو حيان في "البحر" ١/ ٩١، وذكر ابن عطية عن ابن عباس نحوه ١/ ١٩٥، وكذا "القرطبي" ١/ ١٩٣.
(٢٥) أخرجه الطبري (٤٥٤): ص ١/ ٣٤٧.
(٢٦) التفسير البسيط: ٢/ ٢١٤. وذكر نحوه "الطبري"، إلا أنه قال: (جعل البرق لإيمانهم مثلا، وإنما أراد بذلك أنهم كلما أضاء لهم الإيمان، وإضاءته لهم: أن يروا ما يعجبهم في عاجل الدنيا .... )، "تفسير الطبري" ١/ ١٥٨، وانظر: "تفسير الخازن" ١/ ٧١، ٧٢، "البحر" ١/ ٩١.
(٢٧) المحرر الوجيز: ١/ ١٠٤.
(٢٨) أنظر: المحرر الوجيز: ١/ ١٠٤، والبحر المحيط: ١/ ٧١.
(٢٩) شرح المعلقات السبع: ٩٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>