للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكُمْ ... كَلَمْحِ سَرَابٍ فِي الْفَلا مُتَأَلِّقِ

يريد بذلك: قلتم لنا كُفُّوا لنكفّ. وذلك أن " لعل " في هذا الموضع لو كان شَكًّا، لم يكونوا وثقوا لهم كل مَوْثق. وبه قال أكثر المفسرين.

والثاني: أن "لعل" على بابها من الترجي والتوقع، والترجي والتوقع إنما هو في حيز البشر، فكأنه قيل لهم: افعلوا ذلك على الرجاء منكم والطمع أن تعقلوا وأن تذكروا وأن تتقوا.

والثالث: أن تكون "لعل" بمعنى التعرض للشيء، كأنه قيل: افعلوا متعرضين لأن تعقلوا، أو لأن تذكروا أو لأن تتقوا. والمعنى في قوله "لعلكم تتقون" أي لعلكم أن تجعلوا بقبول ما أمركم الله به وقاية بينكم وبين النار. وهذا من قول العرب: اتقاه بحقه إذا استقبله به، فكأنه جعل دفعه حقه إليه وقاية له من المطالبة، ومنه قول علي رضي الله عنه: كنا إذا احمر البأس اتقينا بالنبي صلى الله عليه وسلم، أي جعلناه وقاية لنا من العدو (١). وقال عنترة (٢):

ولقد كررت المهر يدمى نحره ... حتى اتقتني الخيل بابني حِذيم

قال ابن عثيمين: " "لعل" هنا للتعليل. أي لتصلوا إلى التقوى؛ ومعلوم أن التقوى مرتبة عالية، حتى قال الله عزّ وجلّ في الجنة: {أعدت للمتقين} [آل عمران: ١٣٣]، وقال تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل: ١٢٨]، وقال تعالى: {واعلموا أن الله مع المتقين} [البقرة: ١٩٤] " (٣).

وقد ذكر السمين الحلبي، إذا وردت (لعلّ)، في كلام الله فللناس فيها ثلاثة أقوال (٤):

أحدها: أنها على بابها من الترجي والطمع، قاله سيبويه (٥).

الثاني: للتعليل، قاله قطرب و"الطبري" وغيرهما (٦).

والثالث. أنها للتعرض للشيء، وإليه مال المهدوي وأبو البقاء.

وقال البعض: إن (لعل) إذا جاءت من الله فهي واجبة (٧).

الفوائد:

١ من فوائد الآية: العناية بالعبادة؛ يستفاد هذا من وجهين؛ الوجه الأول: تصدير الأمر بها بالنداء؛ والوجه الثاني: تعميم النداء لجميع الناس مما يدل على أن العبادة أهم شيء؛ بل إنّ الناس ما خُلقوا إلا للعبادة، كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} (الذاريات: ٥٦)

٢ ومنها: أن الإقرار بتوحيد الربوبية مستلزم للإقرار بتوحيد الألوهية؛ لقوله تعالى: {اعبدوا ربكم}.

٣ ومنها: وجوب عبادة الله عزّ وجلّ وحده. وهي التي خُلق لها الجن، والإنس؛ و"العبادة" تطلق على معنيين؛ أحدهما: التعبد. وهو فعل العابد؛ والثاني: المتعبَّد به. وهي كل قول، أو فعل ظاهر، أو باطن يقرب إلى الله عزّ وجلّ.

٤ ومنها: أن وجوب العبادة علينا مما يقتضيه العقل بالإضافة إلى الشرع؛ لقوله تعالى: {اعبدوا ربكم}؛ فإن الرب عزّ وجلّ يستحق أن يُعبد وحده، ولا يعبد غيره؛ والعجب أن هؤلاء المشركين الذين لم يمتثلوا هذا الأمر إذا أصابتهم ضراء، وتقطعت بهم الأسباب يتوجهون إلى الله، كما قال تعالى: {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين} [لقمان: ٣٢]؛ لأن فطرهم تحملهم على ذلك ولابد.

٥. ومن فوائد الآية: إثبات أن الله عزّ وجلّ هو الخالق وحده، وأنه خالق الأولين، والآخرين؛ لقوله تعالى: (الذي خلقكم والذين من قبلكم)


(١) انظر: تفسير القرطبي: ١/ ٢٢٧.
(٢) البيت لعنترة بن الشداد، انظر: شرح الديوان: ٢٢١.يصف الشاعر حسن بلائه في ساحة القتال إذ يضرب بسيفه اعداءه وخيولهم وهم مضرجون بالدم لشدة ما فعل بهم.
(٣) تفسير ابن عثيمين: ١/ ٧٣.
(٤) أنظر: الدر المصون" ١/ ١٨٩، وانظر "تفسير الطبري: ١/ ١٦١، (الإملاء) ١/ ٢٣.
(٥) أنظر: الكتاب: ٢/ ١٤٨، يقول: "فإذا قلت: (لعل) فأنت ترجوه أو تخافه في حال ذهابه". وقال: (لعل وعسى طمع واشفاق) ٤/ ٢٣٣. وانظر "تفسير الثعلبي" ١/ ٥٦ ب.
(٦) قال أبو حيان لا تكون بمعنى (كي) خلافا لقطرب وابن كيسان. "البحر" ١/ ٩٣.
(٧) انظر: "تفسير الثعلبي" ١/ ٥٦ ب، "وتفسير ابن عطية" ١/ ١٧٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>