للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٦ ومنها: أن من طريق القرآن أنه إذا ذَكر الحكم غالباً ذَكر العلة؛ الحكم: {اعبدوا ربكم}؛ والعلة: كونه رباً خالقاً لنا، ولمن قبلنا.

٧ ومنها: أن التقوى مرتبة عالية لا ينالها كل أحد إلا من أخلص العبادة لله عزّ وجلّ؛ لقوله تعالى: (لعلكم تتقون).

٨ وربما يستفاد التحذير من البدع؛ وذلك؛ لأن عبادة الله لا تتحقق إلا بسلوك الطريق الذي شرعه للعباد؛ لأنه لا يمكن أن نعرف كيف نعبد الله إلا عن طريق الوحي والشرع: كيف نتوضأ، كيف نصلي .. يعني ما الذي أدرانا أن الإنسان إذا قام للصلاة يقرأ، ثم يركع، ثم يسجد .. إلخ، إلا بعد الوحي.

٩ ومنها: الحث على طلب العلم؛ إذ لا تمكن العبادة إلا بالعلم؛ ولهذا ترجم البخاري. رحمه الله. على هذه المسألة بقوله: "باب: العلم قبل القول، والعمل.

القرآن

{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)} [البقرة: ٢٢]

التفسير:

جعل الله الأرض فراشاً موطئاً يستقر عليها استقراراً كاملاً، وجعل السماء بمنزلة البناء وبمنزلة السقف، وأنزل من السماء مطراً عذباً فراتاً أنزله سبحانه بقدرته، فأخرج بذلك المطر أنواع الثمر والفواكه والخضار، فلا تجعلوا لله أشباهاً ونظراء من المخلوقين فتعبدونهم كما تعبدون الله، وتحبونهم كما تحبونه، وهم مثلكم مخلوقون مرزوقون مدبرون، وأنتم تعلمون أن الله ليس له شريك ولا نظير، لا في الخلق والرزق والتدبير، ولا في الألوهية والكمال.

قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} [البقرة: ٢٢]، أي: " جعل لكم الأرض مهادًا مُوَطَّأً وقرارًا يُستقرّ عليها" (١).

عن قتادة: " {الذي جَعل لكم الأرض فراشًا}، قال: مهادًا لكم" (٢). وروي عن الربيع بن أنس (٣) مثل ذلك.

وقوله {الَّذِي جَعَلَ} معناه هنا (صير) لتعديه إلى مفعولين، ويأتي (جعل) بمعان أخرى منها (٤):

١ - (جعل) يأتي معنى (خلق)، ومنه قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ} [المائدة: ١٠٣] وقوله: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: ١].

٢ - ويأتي بمعنى (سمى)، ومنه قوله تعالى: {حم. وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ. إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [الزخرف: ١ - ٣]. وقوله: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً} [الزخرف: ١٥]. {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} [الزخرف: ١٩] أي سموهم.

٣ - ويأتي بمعنى (أخذ)، كما قال غلِّس بن لقيط الأسدي (٥):


(١) تفسير الطبري: ١/ ٣٦٥.
(٢) أخرجه الطبري (٤٧٦): ص ١/ ٣٦٥.
(٣) أخرجه الطبري (٤٧٧): ص ١/ ٣٦٦.
(٤) أنظر: تفسير القرطبي: ١/ ٢٢٨.
(٥) البيت للشاعر مغلّس بن لقيط (جاهلي)، انظر: لخزانة/ ٥/ ٣٠١، وسيبويه/ ٢/ ٣٦٥، وشرح المفصل/ ٣/ ١٠٥، والأشموني/ ١/ ١٤١، والبيت من قصيدة يرثي بها أخاه، ويشتكي أخوين له وكان أخوه بارا به، واسمه أطيط، وكان الآخران يظهران له العداوة. والضغمة: العضة، يقول: جعلت نفسي تطيب لعضة أعضهما بها يقرع لها الناب العظم، والهاء في قوله: لضغمهماها عائدة على الضغمة. وجعل: فعل شروع، خبره جملة تطيب. والبيت استشهد به الرضي على أنّ الضمير الثاني إذا كان مساويا للأول شذّ وصله كما في البيت، فإنه جمع بين ضميري الغيبة في الاتصال، وكان القياس لضغمهما إياها. وقال سيبويه: إذا ذكرت مفعولين كلاهما غائب قلت: أعطاهوها وأعطاهاه، جاز وهو عربي، ولا عليك بأيهما بدأت .. وهذا ليس بالكثير في كلامهم والكثير في كلامهم أعطاه إياها. على أن الشاعر قال .. (البيت)، ولكن البيت يروى أيضا:
وقد جعلت نفسي تهمّ بضغمة ... على علّ غيظ يقصم العظم نابها
وهذه الرواية أولى بالاتباع، لأن قصيدة البيت فيها شكوى وألم ورقّة تعبير .. والبيت نفسه يمثل ذروة الانفعال العاطفي، ورواية النحويين فيها صناعة، تمنع من تدافع المعاني، وتعقّد الكلام.

<<  <  ج: ص:  >  >>