(٢) تنظر: تفسير ابن كثير: ١/ ٢٠٢. (٣) حادي الأفراح إلى بلاد الأفراح، لابن القيم، بتحقيق: الدكتور السيد الجميلي، الباب الأول: في بيان وجود الجنة، ص: ٣٧، الطبعة الرابعة ١٤٠٩ هـ، ١٩٨٨ م، دار الكتاب العربي. (٤) هو الإمام أبو محمد علي بن أحمد الشهير بابن حزم الأندلسي الظاهري صاحب اللسان الشديد برع في فنون كثيرة ومن مؤلفاته: المحلى في الفقه، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ولد سنة ٣٨٤ هـ وتوفي سنة ٤٥٦ هـ انظر: سير أعلام النبلاء ١٨/ ١٨٧ – ٢١١. (٥) الفصل والملل والأهواء والنحل، لابن حزم، الكلام في خلق الجنة والنار، ٤/ ٨١، دار الفكر، ١٤٠٠ هـ، ١٩٨٠ م. (٦) وقد تضافرت نصوص القرآن والسنة على إثبات ما ذهب جمهور المسلمين من كون الجنة والنار مخلوقتين الآن فالله تعالى يقول في شأن الجنة: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: ١٣٣]، ويقول تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [٥]، وغير ذلك من الآيات التي تدل على أن الجنة مخلوقة موجودة الآن، وقد عبر القرآن بصيغة الماضي في قوله (أُعِدَّتْ) وهذا التعبير يفيد أنها مخلوقة موجودة-كما أشار أليه ابن كثير-، وفي قصة المعراج يقول تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (١٤) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (١٦)} [النجم: ١٣ - ١٦]، مما يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى سدرة المنتهى ورأى عندها جنة المأوى كما في حديث أبي رضي الله عنه في قصة الإسراء حيث يقول في آخره: «ثم أنطلق بي جبريل حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى وغشيها ألوان لا أدري ما هي؟ ثم دخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك". [أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأنبياء، باب ذكر إدريس عليه السلام، ص: ٥٥٦، رقم الحديث: ٣٣٤٢]. وأخبر الله تعالى أنها الجنة التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة فقال تعالى: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (١٩)} [السجدة: ١٩] ويقول في شأن النار: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (١٣١)} [آل عمران: ١٣١]، ويقول تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (٢٩)} [الكهف: ٢٩]، وقال تعالى: {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (١٠٢)} [الكهف: ١٠٢]، وقال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (٤٦)} [غافر: ٤٦]. وغير ذلك من الآيات الدالة على وجود النار. أما الأحاديث الدالة كذلك على وجود الجنة والنار وأنهما مخلوقتان فكثيرة تقتصر على ذكر حديثين فقط منها عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل النار يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة". [صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب الميت يعرض عليه بالغداة والعشي، ص: ٢٢١، رقم الحديث: ١٣٧٩] .. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فاقرؤوا إن شئتم {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين} ". [صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، ص: ٥٤١، رقم الحديث: ٣٢٤٤]. وغير ذلك من الأحاديث التي تقرر وتؤكد أن الجنة والنار مخلوقتان وموجودتان الآن ومعدتان لاستقبال الخلق. وقد نقد المعتزلة هذا الاستدلال لأهل اسنة والجماعة على خلق الجنة والنار، إذ بينوا أن التعبير بلفظ الماضي في هذه الآيات جاء لا ليدل على الوجود بل ليدل على تحقق الوقوع، وفي ذلك يقول الزمخشري المعتزلي في (كشافه): "كلها للمضى، والمراد بها الاستقبال، لأنَّ ما الله فاعله في المستقبل بمنزلة ما قد كان ووجد لتحققه". [الكشاف: ٣/ ٥٩٢]. ويبين الزمخشري عند تفسيره لسورة (غافر) للآيات [٦٩ إلى ٧٦]، والتي تتحدث عن النار وعذابها ما نصه: "إلا أن الأمور المستقبلة لما كانت في أخبار الله تعالى متيقنة مقطوعا بها: عبر عنها بلفظ ما كان ووجد، والمعنى على الاستقبال". [٤/ ١٧٨]. ويقول العرياني: "قوله تعالى في حق الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران: ١٣٣)، وفي حق النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة: ٢٤). {وَبُرِّزَتْ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} (الشعراء: ٩١)، وحملها على التعبير عمّا يقع في المستقبل بلفظ الماضي تنبيها على تحقق وقوعه". [خير القلائد شرح جواهر العقائد، العرياني: ص ١٨٢]، ، فالتعبير بالماضي لا يدل على وجودهما، بل هذا التعبير ليدل على تحقق هذا الوقوع. واستدل أهل السنة والجماعة على وجود الجنة والنار، بقصة آدم عليه السلام وزوجه حواء، حيث أسكنهما الله تعالى الجنة، فلو لم تكن الجنة موجودة لما كان معنى لإدخال الله تعالى آدم وحواء بها. فنقد المعتزلة هذا الوجه من وجوه الاستدلال لأهل السنة، بأن الله تعالى أدخل آدم وحواء بستان من بساتين الدنيا، ولم يدخلهما الجنة المعهودة، وفي ذلك يقول أبو مسلم الأصفهاني المعتزلي: "هي جنة من جنان الدنيا في الأرض". [جامع التأويل لمحكم التنزيل، محمد بن بحر الأصفهاني: ٣٥]. ، ويستدل المعتزلة على أن هذه الجنة لم تكن جنة الخلد بل بستان من بساتين الدنيا بجملة من الوجوه، نجملها في نقطتين، وهما: ١ - أن الغرور لحق آدم في هذه الجنة، وجنة الخلد لا غرور فيها، وفي ذلك يقول البلخي المعتزلي: "لو كان آدم في جنة الخلد لما لحقه فيها الغرور من إبليس بقوله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} (طه: ١٢٠) " [تفسير أبي القاسم الكعبي البلخي، ص ١١٤]. ٢ - أن جنة الخلد من دخلها لا يخرج منها أبداً، فلما أخرج آدم عليه السلام منها علمنا أنها لم تكن الجنة المقصودة، وفي ذلك يقول البلخي المعتزلي: "إن من دخل هذه الجنة لا يخرج منها بقوله تعالى: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (الحجر: ٤٨) ". [تفسير أبي القاسم الكعبي البلخي، ص ١١٤]. وحمل المعتزلة الإهباط الوارد في قوله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} (البقرة: ٣٦)، على "على الانتقال من بقعة إلى بقعة". [تفسير أبي القاسم الكعبي البلخي، ص ١١٤]. ويوضح البزدوي وجه استدلالهم بالآية، فيقول: "لو كان في جنات عدن فما تصور الخروج؟ فإن من دخل الجنة لا يخرج منها". [أصول الدين، ص ١٧٠]، فآدم عليه السلام وحواء لو أدخلا الجنة المعهودة لما خرجا منها، لأن الله تعالى أخبر أن من يدخل الجنة المعهودة لا يخرج منها أبداً، فلما أدخلا وخرجا علمنا أنَّ إدخالهما ليس في الجنة المعهودة، فبطل بذلك دليل أهل السنة المشار إليه سابقاً. وقد نفى أهل السنة وجود التناقض بين آية الهلاك وآية دوام الأكل، فلا يلزم المحال الذي ذكره المعتزلة، ووجه عدم التناقض بين الآيتين أن "المراد بدوام الأكل أنه إذا أفنى منه شيء جيء ببدله، لا أنه يبقى بعينه، وذلك لا ينافي الهلاك لحظة". [خير القلائد شرح جواهر العقائد، ص ١٨٣]، فأكل أهل الجنة دائم بمعنى التجدد، لا بمعنى عدم الفناء، ودوام التجدد لا يناقض عدم الهلاك. أما بخصوص رد أهل السنة والجماعة لنقد المعتزلة للآية الأولى: قوله تعالى في حق الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} (آل عمران: ١٣٣)، وقوله تعالى في حق النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة: ٢٤)، إذ أشار المعتزلة أن لفظة (أعدت)، وإن كانت تدل على الزمن الماضي، الذي يدل على الوجود والوقوع، إلا أن هذه اللفظة في هذا الموطن المراد منها غير ما وضعت له، بل المراد منها تأكيد الوقوع في المستقبل. فنقد أهل السنة هذا الفهم بقولهم: "وهذه الصيغة موضوعة للمضي حقيقة فلا وجه للعدول عنها إلى المجاز إلا بصريح آية، أو صحيح دلالة". [القاري، شرح كتاب الفقه الأكبر، ص ١٦٥]، فنقل المعتزلة هذه اللفظة من الحقيقة التي وضعت لها إلى المجاز من غير دليل، كلام باطل، فسقط بذلك استدلالهم. رد نقدهم للآية الثانية: قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (البقرة: ٣٥). استدل أهل السنة على وجود الجنة، بأن الله تعالى أدخل بها آدم وحواء عليهما السلام، فنقد المعتزلة هذا الاستدلال بأنَّ الجنة التي أدخل بها آدم وحواء ليست الجنة المعهودة، بل بستان من بساتين الدنيا، فنقد أهل السنة هذا الاستدلال للمعتزلة بأن الجنة التي أخرج منها آدم عليه السلام هي جنة الخلد المعهودة، لأن الله تعالى ذكر لآدم عليه السلام أوصاف هذه الجنة، وهذه الأوصاف لا تكون إلا في الجنة المعهودة، يقول البزدوي: "وكذلك قال الله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (البقرة: ٣٥)، وقال تعالى: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} (طه: ١١٧ - ١١٩)، أخبر أنه لو خرج من الجنة؛ يشقى، وأنه في الجنة لا يجوع ولا يعرى ولا يظمأ ولا يضحى، وهذا من صفات جنات عدن لا من صفات جنّات الدنيا، فدلتنا هذه الآية أن آدم عليه السلام كان في جنات عدن". [البزدوي، أصول الدين، ص ١٧٠].