للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يفهم من الكلام السابق، أن المسائل الغيبية، والتي منها عذاب القبر والجنة والنار، المنهج في إثباتها يكون على نقطتين، وهما:

١ - أن الدليل السمعي ورد بها.

٢ - أنها من جملة الممكنات عقلاً.

وكل ما هو كذلك وجب الثبوت له، وأنه حق لا مرية فيه ولا شك، وهذا ما فعله العلماء بالفعل عند إثباتهم لحقية الجنة، فعند حديثهم عن النقطة الأولى وهي ورود الدليل السمعي بالجنة، يقول اللقاني: "الجنة .. حق ثابتة بالكتاب والسنة واتفاق عظماء علماء الأمة، وكل ما هو كذلك فالإيمان به واجب" (١).

وعند حديثهم عن النقطة الثانية، بأن الجنة من جملة الممكنات العقلية، يقول صاحب تحرير المطالب: "أما الإمكان (٢) فأمر ضروري من جهة العقل" (٣)، فالجنة أمر ممكن، بل الإمكان ضروري، لا يتوقف على نظر أو استدلال، بل يعتبر الإمام السنوسي أن ثبوت حقية الجنة من المسائل التي تعلم من الدين بالضرورة، أي أن منكرها كافر، وفي ذلك يقول: "وأما الجنة .. فثبوتها مما علم من الدين ضرورة" (٤).

ويقول القاضي عبد الجبار: "فإن الأمة أجمعت على أن لا دار غير الجنة والنار" (٥)، فأهل السنة والمعتزلة لا خلاف بينهم في حقية الجنة والنار وثبوتهما.

وعند حديثنا عن مكان الجنة، نجد أن العلماء اختلفوا في مكانها، وفي هذا يقول الكومي: " اختلف العلماء في محلهما " (٦)، ويمكن أن نحصر أقوال العلماء في مكان الجنة بأربعة أقوال، وهي:

١ - إن الجنة في العلو، دون الخوض في تحديد مكان في ذاك العلو، فيقول البزدوي: "الجنة في العلو" (٧).

٢ - إن الجنة فوق السماوات السبع وتحت العرش، وقد مال الأكثرون من العلماء إلى هذا القول، حيث يقول العرياني: "والأكثرون على أن الجنة فوق السبع وتحت العرش، تمسكاً بقوله تعالى: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (١٤) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} (النجم: ١٤ – ١٥)، وقوله عليه السلام: (سقف الجنة عرش الرحمن) (٨) " (٩).

٣ - ويرى بعض العلماء التوقف في هذه المسألة، وذلك بسبب تعارض ظواهر النصوص التي عينت مكاناً للجنة، فيقول القاري: "وقيل: بالوقف حيث لا يعلمه إلا الله تعالى" (١٠).

٤ - في حين يرى بعض العلماء أن الأسلم في مثل هذه المسألة أن نفوض علم ذلك إلى الله تعالى، وممن ذكر من العلماء التفويض في هذه المسألة الكومي، حيث يقول: "والحق في ذلك تفويض العلم إلى الله" (١١).

بعد هذا العرض لأقوال العلماء في مكان الجنة، فالذي نراه أن الجنة لها مكان محدد بحدود علوية وسفلية، وذلك من خلال النقاط الثلاث الآتية:


(١) انظر: اللقاني، إبراهيم بن هارون، هداية المريد لجوهرة التوحيد، تحقيق: مروان حسين البجاوي، القاهرة، دار البصائر، ط ١، ١٤٣٠ هـ-٢٠٠٩ م، ص ١١٠٢.
(٢) أي إمكان الجنة والنار.
(٣) الكومي، محمد بن أبي الفضل، تحرير المطالب لما تضمنته عقيدة ابن الحاجب، تحقيق: نزار حمادي، بيروت – لبنان، مؤسسة المعارف، ط ١، ١٤٢٩ هـ- ٢٠٠٨ م، ص ٢٨٢.
(٤) السنوسي، محمد بن يوسف، شرح العقيدة الكبرى، تحقيق: السيد يوسف أحمد، بيروت - لبنان، دار الكتب العلمية، ط ١، ١٤٢٧ هـ - ٢٠٠٦ م، ص ٤٤٠.
(٥) الهمذاني، عبد الجبار بن أحمد (ت ٤١٥ هـ)، شرح الأصول الخمسة، تحقيق: د. عبد الكريم عثمان، القاهرة، مكتبة وهبة، ط ٤، ١٤٢٧ هـ-٢٠٠٦ م، ص ٦٢٣.
(٦) الكومي، تحرير المطالب لما تضمنته عقيدة ابن الحاجب، مرجع سابق، ص ٢٨٣.
(٧) البزدوي، عبد الله بن محمد، أصول الدين، تحقيق: د. هانز بيتر لنس، القاهرة، المكتبة الأزهرية، ١٤٢٤ هـ-٢٠٠٣ م، ص ١٧٠.
(٨) صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب: وكان عرشه على الماء ٦/ ٢٧٠٠، حديث رقم: ٦٩٨٧.
(٩) العرياني، خير القلائد شرح جواهر العقائد، ص ١٨٣.
(١٠) القاري، علي بن سلطان، شرح كتاب الفقه الأكبر، علق عليه علي محمد دندل، بيروت - لبنان، دار الكتب العلمية، ط ٢، ١٤٢٨ هـ-٢٠٠٧ م، ص ١٦٥ - ١٦٦.
(١١) الكومي، تحرير المطالب لما تضمنته عقيدة ابن الحاجب، ص ٢٨٣.

<<  <  ج: ص:  >  >>