للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أحدهما: إلى الموضع الذي يتولى الله الحكم بينكم.

والثاني: إلى المجازاة على الأعمال.

وقد ذكروا في قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: ٢٨]، ستة تأويلات (١):

أحدها: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً} أي لم تكونوا شيئاً، {فَأَحْيَاكُمْ} أي خلقكم، {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاء آجالكم، {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} يوم القيامة، وهذا قول ابن عباس (٢)، وابن مسعود (٣)، أبي مالك (٤)، ومجاهد (٥)، وأبي العالية (٦).

والثاني: أن قوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً} يعني في القبور {فَأَحْيَاكُمْ} للمساءلة، {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} في قبوركم بعد مساءلتكم، ثم يحييكم عند نفخ الصور للنشور، لأن حقيقة الموت ما كان عن حياةٍ، وهذا قول أبي صالح (٧).

والثالث: أن قوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً} يعني في أصلاب آبائكم، {فَأَحْيَاكُمْ} أي أخرجكم من بطون أمهاتكم، {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} الموتة التي لا بد منها، {ثُم يُحْيِيكُمْ} للبعث يوم القيامة، وهذا قول قتادة (٨).

والرابع: أن قوله: {وَكُنْتُمْ أَمْواتاً} يعني: أن الله عز وجل حين أخذ الميثاق على آدم وذريته، أحياهم في صلبه وأكسبهم العقل وأخذ عليهم الميثاق، ثم أماتهم بعد أخذ الميثاق عليهم، ثم أحياهم وأخرجهم من بطون أمهاتهم، وهو معنى قوله تعالى: {يَخْلُقْكُمْ في بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّنْ بَعْدِ خَلْقٍ} " [الزمر: ٦] فقوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً} يعني بعد أخذ الميثاق، {فَأَحْيَاكُمْ} بأن خلقكم في بطون أمهاتكم ثم أخرجكم أحياء، {ثم يُمِيتُكُمْ} بعد أن تنقضي آجالكم في الدنيا، {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} بالنشور للبعث يوم القيامة، وهذا قول ابن زيدٍ (٩).

والخامس: أن الموتة الأولى مفارقة نطفة الرجل جسده إلى رحم المرأة، فهي مَيِّتَةٌ من حين فراقها من جسده إلى أن ينفخ الروح فيها، ثم يحييها بنفخ الروح فيها، فيجعلها بشراً سويّاً، ثم يميته الموتة الثانية بقبض الروح منه، فهو ميت إلى يوم ينفخ في الصور، فيرُد في جسده روحه، فيعود حياً لبعث القيامة، فذلك موتتان وحياتان (١٠).

والسادس: أن قوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً} خاملي الذكر دارسي الأثر، {فَأَحْيَاكُمْ} بالظهور والذكر، {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} عند انقضاء آجَالكم، {ثُمَّ يُحييكُمْ} للبعث، واستشهد من قال هذا التأويل بقول أبي بُجَيْلَةَ السَّعْدِيِّ (١١):

فَأَحْيَيْتَ لِي ذكْري، وَمَا كُنْتُ خَامِلا ... وَلَكِنَّ بَعْضَ الذِّكْرِ أَنْبَهُ مِنْ بَعْضٍ

قوله: (فأحييتَ لي ذكري}، أي: رفعته وشهرته في الناس حتى نبه فصار مذكورًا حيًّا، بعد أن كان خاملا ميتًا (١٢).

ولكل من الأقوال السابقة وجه ومذهبٌ من التفسير، وأولى الأقوال بتفسير الآية هو قول ابن مسعود وابن عباس، أي: " وكنتم أمواتًا " أمواتَ الذكر، خمولا في أصلاب آبائكم نطفًا، لا تُعرفون ولا تُذكرون: فأحياكم بإنشائكم بشرًا سويًّا حتى ذُكِرتم وعُرِفتم وحَيِيتم، ثم يُميتكم بقبض أرواحكم وإعادتكم رُفاتًا لا تُعرفون ولا تُذكرون في البرزخ إلى يوم تبعثون، ثم يحييكم بعد ذلك بنفخ الأرواح فيكم لبعث الساعة وصَيحة القيامة، ثم إلى الله ترجعون بعد ذلك" (١٣). والله أعلم.


(١) أنظر: تفسير الطبري: ١/ ٤١٨ - ٤٢٧، والنكت والعيون: ١/ ٩١ - ٩٢.
(٢) أنظر: تفسير ابن أبي حاتم (٣٠١): ص ١/ ٧٣، وتفسير الطبري (٥٨٣)، و (٥٨١): ص ١/ ٤١٩.
(٣) أنظر: تفسير الطبري (٥٧٦): ص ١/ ٤١٨.
(٤) أنظر: تفسير الطبري (٥٧٨)، و (٥٧٩): ص ١/ ٤١٨.
(٥) أنظر: تفسير الطبري (٥٨٠): ص ١/ ٤١٩.
(٦) أنظر: تفسير الطبري (٥٨٢): ص ١/ ٤١٩.
(٧) أنظر: تفسير الطبري (٥٨٤): ص ١/ ٤١٩.
(٨) أنظر: تفسير الطبري (٥٨٥): ص ١/ ٤١٩ - ٤٢٠.
(٩) أنظر: تفسير الطبري (٥٨٦): ص ١/ ٤٢٠ - ٤٢١.
(١٠) أنظر: تفسير الطبري: ١/ ٤٢٣.
(١١) الأغاني ١٨: ١٤٠، والمؤتلف والمختلف للآمدي: ١٩٣، وأبو نخيلة اسمه لا كنيته، كما قال أبو الفرج، ويقال اسمه: يعمر بن حزن بن زائدة، من بني سعد بن زيد مناة، وكان الأغلب عليه الرجز، وله قصيد قليل، وكان عاقًّا بأبيه، فنفاه أبوه عن نفسه. والبيت من أبيات، يمدح بها مسلمة بن عبد الملك.
(١٢) أنظر: تفسير الطبري: ١/ ٤٢١.
(١٣) تفسير الطبري: ١/ ٤٢٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>