للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال النسفي: "وإنما كان العطف الأول بالفاء والبواقي بثم لأن الإحياء الأول قد تعقب الموت بلا تراخٍ، وأما الموت فقد تراخى عن الحياة والحياة الثانية كذلك تتراخى عن الموت إن أريد النشور، وإن أريد إحياء القبر فمنه يكتسب العلم بتراخيه، والرجوع إلى الجزاء أيضاً متراخٍ عن النشور، وإنما أنكر اجتماع الكفر مع القصة التي ذكرها لأنها مشتملة على آيات بينات تصرفهم على الكفر، ولأنها تشتمل على نعمٍ جسام حقها أن تشكر ولا تكفر" (١).

وقال القاسمي: " فإن قيل: إن علموا أنهم كانوا أمواتا فأحياهم ثم يميتهم، لم يعلموا أنه يحييهم ثم إليه يرجعون، فيكف نظم ما ينكرونه، من الإحياء الأخير والرجع، في سلك ما يعترفون به من الإحياء الأول والإماتة .. ؟

قلت: تمكنهم من العلم بهما- لما نصب لهم من الدلائل- منزل منزلة علمهم في إزاحة العذر. سيما وفي الآية تنبيه على ما يدل على صحتهما. وهو أنه تعالى لما قدر على إحيائهم أولا، قدر على أن يحييهم ثانيا. فإن بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته.! أو الخطاب، مع أهل الكتابين. وإنكار اجتماع الكفر- مع القصة التي ذكرها الله تعالى- إما لأنها مشتملة على آيات بينات تصرفهم عن الكفر، أو على نعم جسام حقها أن تشكر ولا تكفر. أو لإرادة الأمرين جميعا. فإن ما عدده آيات، وهي- مع كونها آيات- من أعظم النعم" (٢).

الفوائد:

١ من فوائد الآية: شدة الإنكار حتى يصل إلى حد التعجب ممن يكفر وهو يعلم حاله، ومآله.

٢ ومنها: أن الموت يطلق على ما لا روح فيه. وإن لم تسبقه حياة.؛ يعني: لا يشترط للوصف بالموت تقدم الحياة؛ لقوله تعالى: {كنتم أمواتاً فأحياكم}؛ أما ظن بعض الناس أنه لا يقال: "ميت" إلا لمن سبقت حياته؛ فهذا ليس بصحيح؛ بل إن الله تعالى أطلق وصف الموت على الجمادات؛ قال تعالى في الأصنام: {أموات غير أحياء} [النحل: ٢١].

٣ ومنها: أن الجنين لو خرج قبل أن تنفخ فيه الروح فإنه لا يثبت له حكم الحي؛ ولهذا لا يُغَسَّل، ولا يكفن، ولا يصلي عليه، ولا يرث، ولا يورث؛ لأنه ميت جماد لا يستحق شيئاً مما يستحقه الأحياء؛ وإنما يدفن في أيّ مكان في المقبرة، أو غيرها.

٤ ومنها: تمام قدرة الله عزّ وجلّ؛ فإن هذا الجسد الميت ينفخ الله فيه الروح، فيحيى، ويكون إنساناً يتحرك، ويتكلم، ويقوم، ويقعد، ويفعل ما أراد الله عزّ وجلّ.

٥ ومنها: إثبات البعث؛ لقوله تعالى: {ثم يحييكم ثم إليه ترجعون}؛ والبعث أنكره من أنكره من الناس، واستبعده، وقال: {من يحيي العظام وهي رميم} [يس: ٧٨]؛ فأقام الله. تبارك وتعالى. على إمكان ذلك ثمانية أدلة في آخر سورة "يس": .

الدليل الأول: قوله تعالى: {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة} [يس: ٧٩]: هذا دليل على أنه يمكن أن يحيي العظام وهي رميم؛ وقوله تعالى: {أنشأها أول مرة} دليل قاطع، وبرهان جليّ على إمكان إعادته كما قال الله تعالى: {وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه} [الروم: ٢٧].

الدليل الثاني: قوله تعالى: {وهو بكل خلق عليم} [يس: ٧٩] يعني: كيف يعجز عن إعادتها وهو سبحانه وتعالى بكل خلق عليم: يعلم كيف يخلق الأشياء، وكيف يكونها؛ فلا يعجز عن إعادة الخلق.

الدليل الثالث: قوله تعالى: {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون} [يس: ٨٠]: الشجر الأخضر فيه البرودة، وفيه الرطوبة؛ والنار فيها الحرارة، واليبوسة؛ هذه النار الحارة اليابسة تخرج من شجر بارد رطب؛ وكان الناس فيما سبق يضربون أغصاناً من أشجار معينة بالزند؛ فإذا ضربوها انقدحت النار، ويكون عندهم شيء قابل للاشتعال بسرعة؛ ولهذا قال تعالى: {فإذا أنتم منه توقدون} [يس: ٨٠] تحقيقاً لذلك.


(١) تفسير النسفي: ١/ ٥٦.
(٢) محاسن التأويل: ١/ ٢٨١.

<<  <  ج: ص:  >  >>