للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فزعم أنه عنى به أنهن خرجن من الضّجوع، وكان ذلك عنده بمعنى: أقبلن، وهذا من التأويل في هذا البيت خطأ، وإنما معنى قوله: " واستوين من الضجوع "، استوين على الطريق من الضجوع خارجات، بمعنى استقمن عليه (١).

قال ابن عثيمين: " وهذا القول ليس صرفا للكلام عن ظاهره، وذلك لأن الفعل استوى اقترن بحرف يدل على الغاية والانتهاء، فانتقل إلى معنى يناسب الحرف المقترن به، ألا ترى إلى قوله تعالى: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ)، حيث كان معناها يروى بها عباد الله، لأن الفعل يشرب اقترن بالباء فانتقل إلى معنى يناسبها وهو يروى، فالفعل يضمن معنى يناسب معنى الحرف المتعلق به ليلتئم الكلام " (٢).

والقول الثالث: أن قوله {ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّمَاءِ}، يعني به: استوت، كما قال الشاعر (٣):

أقُولُ لَهُ لَمَّا اسْتَوَى في تُرَابِهِ ... على أيّ دِينٍ قَبَّلَ الرأسَ مُصْعَبُ

والقول الرابع: أنه لم يكن ذلك من الله جل ذكره بتحوّل، ولكنه بمعنى فعله، كما تقول: كان الخليفة في أهل العراق يواليهم ثم تحوّل إلى الشام، إنما يريد تحوّل فعله.

والقول الخامس: أن معنى قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إلى السَّماءِ}: عمد إليها، وقال: بل كل تارك عملاً كان فيه إلى آخره فهو مستو لما عمد ومستو إليه.

وأقرب الأقوال الى الصواب هو أن {اسْتَوَى} معناه: قصد إلى خلقها، إذ ترد كلمة (استوى) في القرآن على ثلاثة معاني:

أحدها: لا تعدى بالحرف، فيكون معناها، (الكمال والتمام)، كما في قوله عن موسى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص: ١٤].

والثاني: أن تكون بمعنى (علا) و (ارتفع)، وذلك إذا عديت بـ "على "كما في قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: ٥٤]، وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: ٥]، وقوله تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: ١٣].

والثالث: أن تكون بمعنى (قصد) كما إذا عديت بـ "إلى "كما في هذه الآية: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: ٢٩]، أي: لما خلق تعالى الأرض، قصد إلى خلق السماوات {فسواهن سبع سماوات} فخلقها وأحكمها، وأتقنها (٤).

قال ابن عطية: " والقاعدة في هذه الآية ونحوها منع النقلة وحلول الحوادث، ويبقى استواء القدرة والسلطان" (٥).

قوله تعالى: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: ٢٩]، "أي صيّرهن وقضاهن سبع سماوات محكمة" (٦).

قال البغوي: أي" خلقهن مستويات لا فطور فيها ولا صدع" (٧).

قال ابن عثيمين: "أي جعلها سوية طباقاً غير متناثرة قوية متينة" (٨).

قال الربيع بن أنس: " سوّى خلقهن" (٩). وروي عن أبي العالية (١٠)، مثل ذلك.

قال قتادة: " بعضهن فوق بعض، بين كل سمائين مسيرة خمسمائة عام" (١١).


(١) انظر: تفسير الطبري: ١/ ٤٢٨.
(٢) مجموع فتاوى ورسائل العثيمين: ٣/ ٣١٢.
(٣) البيت ورد في تفسير الطبري: ١/ ٤٢٨، ولم أجد قائله.
(٤) انظر: تفسير السعدي: ١/ ٤٨.
(٥) المحرر الوجيز: ١/ ١١٥.
(٦) صفوة التفاسير: ١/ ٣٩.
(٧) تفسير البغوي: ١/ ٧٨.
(٨) تفسير ابن عثيمين: ١/ ١١٠.
(٩) أخرجه الطبري (٥٨٩): ص ١/ ٤٣١.
(١٠) أخرجه ابن أبي حاتم (٣١٠): ص ١/ ٧٥.
(١١) أخرجه ابن أبي حاتم (٣٠٩): ص ١/ ٧٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>